في هذا المقتطف من رواية غير منشورة بعد لماجد عبد الهادي بعنوان "المجنون" نتعرّف إلى الحياة الفلسطينية وكيف تمزّقت، من خلال حكاية عن فعل الاحتلال الإسرائيلي في مجتمع اللاجئين.
- ما رأيك يا هنية، إذا رزقنا الله بصبي، أن نسميه بشيرًا؟. قال حمدان لعروسه، يوماً، وهما يجلسان أمام عتبة غرفتهما، في مخيم الدهيشة.
كان يتمدد متوسداً فخذها، وشعور طاغ بالسعادة يغمر جوانحه، لخبر حملها الذي كشفت عنه، بحياء، قبل أيام.
انتفضت هنية لدى سماعها السؤال، وأحسّت كما لو أن زوجها، الذي هو ابن عمها أيضاً، قد فقد الأمل بعودة شقيقه الوحيد بشير، الذي اختفى منذ ثماني سنوات، في غياهب الحرب العربية الإسرائيلية الأولى.
- "فأل الله ولا فألك يا زلمة. هل تريد أن يغضب عمي منك؟!. ألا ترى أنه ما زال يواصل الجلوس، ساعات طوالاً، كل يوم، باكياً، ومنتظراً عودة بشير. حرام عليك يا حمدان!.
- لماذا يغضب؟. أبي يعرف أني مثله تماماً، لا أتمنى شيئا من الله سوى عودة بشير. وإن أطلقت اسم أخي المفقود على ابني، فلأني أحبّه كما لا أحبّ أحداً في هذه الدنيا.
- ما رأيك لو تسأله عمّا يحب أن يطلق من الأسماء على أوّل أحفاده؟. قد يجد في هذه البادرة منك، ما يُدخل إلى قلبه بعض سعادة، هو في أمسّ الحاجة إليها، ولعله يقترح عليك بنفسه اسم بشير، من يدري؟.
بدا كلام الشابّة الصغيرة، التي كانت في السادسة عشرة من العمر، مقنعاً لزوجها. لم يقل لها ذلك بصراحة، بل رفع رأسه عن فخذها بصمت، واعتدل في جلسته، ثم وقف ليطلّ من فوق السور على منزل أبيه المحاذي تماماً لمنزله، ويلقي نظرة على الكهل الذي تلاحقه المصائب، كي يرى ما إذا كان في مزاج ملائم لمؤانسته بحديث من هذا القبيل، أم أنه يئنّ كالمعتاد، تحت ضغط الواقع المرّ، والذكريات الحزينة.
اقرأ أيضاً: عن حاضر كان ينقصنا
كان منزل حمدان، ومنزل والده عبد الحكيم في الأصل منزلاً واحداً يقع على طرف مخيم الدهيشة، المجاور لمدينة بيت لحم. وقد اضطرا لاقتسامه عندما بدأت العائلة استعدادها لأوّل زواج تقيمه لواحد من أبنائها بعد النكبة. آنذاك حصل الأب والأم وبناتهما الخمس على البناء القائم أصلاً بغرفتيه الاثنتين، ومعهما مرحاض ومساحة من الأرض لا تزيد على عشرين متراً مربعاً، بينما اقتطع الابن نحو أربعين متراً مربعاً، وشيّد عليها مسكن حياته الزوجية المستقبلية: غرفة واحدة مسقوفة بـ"الزينكو"، يقابلها على مسافة بضعة أمتار مرحاض غير مسقوف، تغطي مدخله قطعة كبيرة من الخيش، وفي المسافة الفاصلة بينهما ممرّ مرصوف بحجارة صغيرة، ومحاط بأحواض زرعها العريس الشاب بالنعناع والبصل والفجل والسبانخ والسلق، استعداداً لقدوم العروس التي ستعاونه خلال شهور طويلة بعد زواجهما في جمع "الدبش"* اللازم ليبني سورًا حجرياً بسيطاً حول عشّهما، أسوة بما فعل كلّ اللاجئين المتألمين لفقد خصوصياتهم الإنسانية، وسط ازدحام بيوت المخيم، وهشاشتها، أكثر من ألمهم لما يعانون من جوع وفقر وفاقة.
أطلق اللاجئون الفلسطينيون على منازلهم إبان تلك المرحلة اسم "براكيّات"، وهو اسمُ مكانٍ مؤنث ومشتق، كما كان مثقفوهم يرددون بسخرية، من الفعل "برك" الذي يستخدم في اللغة العربية لدى الحديث عن الدواب عموماً، والجٍمال والنوق على وجه الخصوص، بمعنى جلس قليلاً، وبما يعكس على الأرجح استكثارهم إطلاق اسم بيوت على مساكنهم الوضيعة، وظنهم أو وهمهم الجماعي بأن مكوثهم لن يطول بعيداً عن ديارهم التي طردتهم منها العصابات الصهيونية عام 1948 لتقيم دولة إسرائيل على أنقاضها.
وإن ينسَ هؤلاء بعض معاناتهم الإنسانية القاسية إبّان سنوات الشتات الأولى، فلن ينسوا أبداً صعوبة تكيّفهم مع الحياة، في بيوت تخلو من أبسط مقومات الحياة الكريمة؛ لا مطابخ لها ولا مرافق للصرف الصحي، بينما لا يزيد سمك جدران غرفها المصنوعة من ألواح إسمنتية تسمى "الإسبست" عن سنتيمتر واحد أو اثنين. وتعلوها أسقف من الرقائق الحديدية المعروفة بـ "الزينكو"، وبالكاد يتكون أثاثها من أسمال ووسائد بالية، تُستخدم للجلوس نهاراً وللنوم ليلاً .
أمّا أسوأ ذكريات اللاجئين الفلسطينيين عن حياتهم في مستهلّ زمن المخيمات، فلها صورة طالما أشعرت الرجال بنوع من العار، لتناقضها مع صميم قيمهم الاجتماعية والدينية المحافظة؛ ذلك لأن النساء كن يغادرن بيوتهن مرّات عدة كل يوم لجلب المياه من مسافات بعيدة في جرار فخارية وأوعية من التنك، ما يجعلهن في بعض الأحيان عرضة لإساءات أبناء الشوارع التي يمرقن عبرها.
اقرأ أيضاً: مخيم
وبقدر ما يتعلق الأمر بهنية، فإن بنات عمّها اللواتي هنّ شقيقات زوجها، عملن على أن يوفرن لها المياه في الأسبوع الأوّل من زواجها بحمدان. ثم صارت ترافقهن في ما بعد إلى "العين"، كي تجلب حاجات بيتها المائية، تماماً مثلما فعلت على مدى سنوات سابقة، عندما كانت في بيت أبيها، الذي دفعته أقدار النكبة، ليقطن وأسرته مخيماً بعيداً عن أرض فلسطين، هو مخيم الوحدات المجاور للعاصمة الأردنية عمان.
وللدقة، فإن كلمة "العين" لم تكن في واقع الأمر إلا تعبيراً مجازياً عن ثمانية صنابير مياه، تتوسّط الطرف الغربي للمخيم بمحاذاة الشارع الرئيس الذي يربط مدينة بيت لحم بمدينة الخليل، أنشأتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة لهيئة الأمم المتحدة، بمجرد أن فرغت من إنشاء مئات "البراكيّات" لألوف اللاجئين الذين فرّوا من قرى "وادي الصرار"، وهي قرى تقع على بعد خمسة عشر كيلومتراً غربي القدس، وأشهرها "ديربان" و"عجور" و"البريج" و"بيت نتيف" و"دير رفات" و"عرتوف" و"جراش" و"بيت عطاب".
في المخيم، اختار أهالي كلّ قرية أن يسكنوا إلى جوار بعضهم بعضاً، فباتت هناك حارة الدياربة نسبة إلى ديربان وحارة العجاجرة نسبة إلى عجور، وحارة البريجية نسبة إلى البريج، وما إلى ذلك من قرى أخرى فرّت أسماؤها منها، لترافق أبناءها اللاجئين على أراضي الشتات، ولتساهم بصياغة واقع اجتماعي وجغرافي مختلف شكلاً عمّا كانت عليه الحال قبل النكبة، وإن تشابه معه نوعاً، لا سيما في ما يتعلق بالعادات والتقاليد وعلاقات المصاهرة والتزاوج بين هؤلاء الذين طالما اعتبروا أنفسهم، على مر العصور، امتداداً اجتماعياً لأهالي قرى جبل الخليل، مع أن معظم أراضي منطقتهم كانت ملحقة إداريا بقضاء مدينة الرملة في زمن الحكم العثماني، ثم بقضاء مدينة القدس في زمن الانتداب البريطاني.
وقد ندر أن تجد في مخيم الدهيشة خلال هذه الحقبة من لا يستخدم عبارة "يا خال"، لدى مناداة جاره أو صديقه أو زميله الذي ينتمي إلى قرية أخرى. الكلّ أخوال الكلّ؛ لأن هذا ديرباني أمه عجورية كحمدان، وذاك بريجي جدته من بيت نتيف، أو العكس. كما أن التداخل بين الحارات وضيقها الشديد، فرض في بعض الأحيان وجود بيت لأسرة لاجئة من دير بيت الجمال مثلاً داخل حارة أهالي بيت عطاب، وخلق صداقات وخصومات بين الجيران أصحاب البيوت المتلاصقة. وساعد على تنامي نمط جديد من العلاقات، أساسه الأهمّ أن هؤلاء اللاجئين المنتمين أصلاً إلى طبقات مختلفة من حيث ملكياتها الزراعية السابقة، قد أمسوا بالمعنى الطبقي سواسية كأسنان المشط، وسط وحل المخيم، حيث تقدّم لهم وكالة الغوث مساعدات غذائية شحيحة ولا تسدّ الرمق، فيضطرون إلى العمل غالباً في الإنشاءات وتعبيد الطرق وجمع النفايات كي ينتزعوا لقمة الخبز لأطفالهم.
"في أيام البلاد"، وهذه عبارة شاع استخدامها بين اللاجئين، للإشارة إلى زمن ما قبل النكبة، كان مقياس الثراء والجاه والنفوذ، لاسيما في أعراف الفلاحين هو امتلاك الأراضي والماشية. أمّا النقود الذهبية، فلم تكن إلا وسيلة دفع وقبض في الصفقات الكبيرة، ولا تغني عن التبادل السلعي الذي ظلّ قائماً حتى وقت متأخر من أربعينيات القرن العشرين. لذا، فإن الحقول الكبيرة وقطعان الماعز والأبقار التي كان يمتلكها عبد الحكيم في قريته ديربان، وتجعل منه أحد أغنياء المنطقة، لم تنفعه بشيء عندما تحوّل وكلّ أفراد أسرته إلى لاجئين. وازداد الأمر سوءًا لأنه في سويعات سقوط قرى وادي الصرار كّلها أمام الهجوم الكبير الذي شنته العصابات اليهودية، كان يقوم وزوجته بزيارة إلى أهلها في عجور، ولم يسعفه الوقت ليصل إلى بضع مئات من الليرات الذهبية التي كان قد خبّأها تحت أرض مخزنٍ للأعلاف في الباحة الخلفية لمنزله.
وإذ انقلبت حال الرجل بين عشية وضحاها من الغنى إلى الفقر المدقع، وجد نفسه مضطرًا للشغل في تعبيد الطرق كالآخرين، غير أنه، وهو الذي كان قد جاوز الثانية والأربعين من دون أن يعمل عملاً يدوياً واحداً، أخفق في إرضاء أرباب العمل. أشفق عليه ولداه الكبيران، فحلّ بشير محلّه وتولي مهمة الإنفاق على الأسرة، قبل أن يذهب إلى ديربان في رحلة عودة ما عاد منها أبداً، ثم حمدان لاحقاً، أي منذ بلغ سن الخامسة عشرة، وحتى ما بعد زواجه بابنة عمه هنية بنحو عقدين كاملين.
كان الابن الشاب يتقاضى خمسة وعشرين قرشاً أردنياً كلّ يوم، ويقسمها بين أسرته الصغيرة وأسرة أبيه، تماماً مثلما تقاسما المأوى والحسرة على الابن المفقود، والأمل بالعودة يوماً إلى ديربان من دون أن يلحظ أي منهما، ولا أي لاجئ آخر، حقيقة إسهامه اليومي في صنع حياة جديدة، يطغى عليها السعي الحثيث لانتزاع لقمة العيش من أنياب غائلة الفقر، ويغيب عنها أي فعل جماعي لاستعادة الحقوق الوطنية المسلوبة، سوى تكرار رواية النكبة، ومواصلة التغني الحزين بالبلاد المسلوبة، على مسامع أبنائهم المولودين في الشتات.
ورغم ما اتصف به فعلهم هذا من عجز ظاهر، فإن توازيه مع نسبة تناسل مرتفعة اشتهرت بها المخيمات الفلسطينية، سيؤدّي بعد حين من الدهر، إلى تأسيس مفاهيم تحررية مختلفة بين أبناء الأجيال اللاحقة الذين سيكون صبري بن هنية وحمدان واحداً منهم، وسيختارون البندقية وسيلة لخوض معركة العودة إلى أرض ما عرفوها إلا في الحكايات الحزينة، ولا رأوا من صورتها شيئاً سوى الظلال الباقية في عيون آبائهم وأجدادهم.
هل كان اللاجئون الفلسطينيون يدركون ما سيحدث غداً، وهم يطلقون على مواليدهم أسماء شديدة الصلة بما حلّ بهم، ويقصّون عليهم تراجيديا النكبة، أم أنهم فعلوا ما فعلوا لمواساة أنفسهم، لا أكثر، ثم حدث أن لعب التاريخ لعبته دونما قصد منهم، وولدت الثورة من رحم العجز؟.
(كاتب فلسطيني)
*صفحات من مخطوطة رواية غير منشورة بعنوان "المجنون"
كان يتمدد متوسداً فخذها، وشعور طاغ بالسعادة يغمر جوانحه، لخبر حملها الذي كشفت عنه، بحياء، قبل أيام.
انتفضت هنية لدى سماعها السؤال، وأحسّت كما لو أن زوجها، الذي هو ابن عمها أيضاً، قد فقد الأمل بعودة شقيقه الوحيد بشير، الذي اختفى منذ ثماني سنوات، في غياهب الحرب العربية الإسرائيلية الأولى.
- "فأل الله ولا فألك يا زلمة. هل تريد أن يغضب عمي منك؟!. ألا ترى أنه ما زال يواصل الجلوس، ساعات طوالاً، كل يوم، باكياً، ومنتظراً عودة بشير. حرام عليك يا حمدان!.
- لماذا يغضب؟. أبي يعرف أني مثله تماماً، لا أتمنى شيئا من الله سوى عودة بشير. وإن أطلقت اسم أخي المفقود على ابني، فلأني أحبّه كما لا أحبّ أحداً في هذه الدنيا.
- ما رأيك لو تسأله عمّا يحب أن يطلق من الأسماء على أوّل أحفاده؟. قد يجد في هذه البادرة منك، ما يُدخل إلى قلبه بعض سعادة، هو في أمسّ الحاجة إليها، ولعله يقترح عليك بنفسه اسم بشير، من يدري؟.
بدا كلام الشابّة الصغيرة، التي كانت في السادسة عشرة من العمر، مقنعاً لزوجها. لم يقل لها ذلك بصراحة، بل رفع رأسه عن فخذها بصمت، واعتدل في جلسته، ثم وقف ليطلّ من فوق السور على منزل أبيه المحاذي تماماً لمنزله، ويلقي نظرة على الكهل الذي تلاحقه المصائب، كي يرى ما إذا كان في مزاج ملائم لمؤانسته بحديث من هذا القبيل، أم أنه يئنّ كالمعتاد، تحت ضغط الواقع المرّ، والذكريات الحزينة.
اقرأ أيضاً: عن حاضر كان ينقصنا
كان منزل حمدان، ومنزل والده عبد الحكيم في الأصل منزلاً واحداً يقع على طرف مخيم الدهيشة، المجاور لمدينة بيت لحم. وقد اضطرا لاقتسامه عندما بدأت العائلة استعدادها لأوّل زواج تقيمه لواحد من أبنائها بعد النكبة. آنذاك حصل الأب والأم وبناتهما الخمس على البناء القائم أصلاً بغرفتيه الاثنتين، ومعهما مرحاض ومساحة من الأرض لا تزيد على عشرين متراً مربعاً، بينما اقتطع الابن نحو أربعين متراً مربعاً، وشيّد عليها مسكن حياته الزوجية المستقبلية: غرفة واحدة مسقوفة بـ"الزينكو"، يقابلها على مسافة بضعة أمتار مرحاض غير مسقوف، تغطي مدخله قطعة كبيرة من الخيش، وفي المسافة الفاصلة بينهما ممرّ مرصوف بحجارة صغيرة، ومحاط بأحواض زرعها العريس الشاب بالنعناع والبصل والفجل والسبانخ والسلق، استعداداً لقدوم العروس التي ستعاونه خلال شهور طويلة بعد زواجهما في جمع "الدبش"* اللازم ليبني سورًا حجرياً بسيطاً حول عشّهما، أسوة بما فعل كلّ اللاجئين المتألمين لفقد خصوصياتهم الإنسانية، وسط ازدحام بيوت المخيم، وهشاشتها، أكثر من ألمهم لما يعانون من جوع وفقر وفاقة.
أطلق اللاجئون الفلسطينيون على منازلهم إبان تلك المرحلة اسم "براكيّات"، وهو اسمُ مكانٍ مؤنث ومشتق، كما كان مثقفوهم يرددون بسخرية، من الفعل "برك" الذي يستخدم في اللغة العربية لدى الحديث عن الدواب عموماً، والجٍمال والنوق على وجه الخصوص، بمعنى جلس قليلاً، وبما يعكس على الأرجح استكثارهم إطلاق اسم بيوت على مساكنهم الوضيعة، وظنهم أو وهمهم الجماعي بأن مكوثهم لن يطول بعيداً عن ديارهم التي طردتهم منها العصابات الصهيونية عام 1948 لتقيم دولة إسرائيل على أنقاضها.
وإن ينسَ هؤلاء بعض معاناتهم الإنسانية القاسية إبّان سنوات الشتات الأولى، فلن ينسوا أبداً صعوبة تكيّفهم مع الحياة، في بيوت تخلو من أبسط مقومات الحياة الكريمة؛ لا مطابخ لها ولا مرافق للصرف الصحي، بينما لا يزيد سمك جدران غرفها المصنوعة من ألواح إسمنتية تسمى "الإسبست" عن سنتيمتر واحد أو اثنين. وتعلوها أسقف من الرقائق الحديدية المعروفة بـ "الزينكو"، وبالكاد يتكون أثاثها من أسمال ووسائد بالية، تُستخدم للجلوس نهاراً وللنوم ليلاً .
أمّا أسوأ ذكريات اللاجئين الفلسطينيين عن حياتهم في مستهلّ زمن المخيمات، فلها صورة طالما أشعرت الرجال بنوع من العار، لتناقضها مع صميم قيمهم الاجتماعية والدينية المحافظة؛ ذلك لأن النساء كن يغادرن بيوتهن مرّات عدة كل يوم لجلب المياه من مسافات بعيدة في جرار فخارية وأوعية من التنك، ما يجعلهن في بعض الأحيان عرضة لإساءات أبناء الشوارع التي يمرقن عبرها.
اقرأ أيضاً: مخيم
وبقدر ما يتعلق الأمر بهنية، فإن بنات عمّها اللواتي هنّ شقيقات زوجها، عملن على أن يوفرن لها المياه في الأسبوع الأوّل من زواجها بحمدان. ثم صارت ترافقهن في ما بعد إلى "العين"، كي تجلب حاجات بيتها المائية، تماماً مثلما فعلت على مدى سنوات سابقة، عندما كانت في بيت أبيها، الذي دفعته أقدار النكبة، ليقطن وأسرته مخيماً بعيداً عن أرض فلسطين، هو مخيم الوحدات المجاور للعاصمة الأردنية عمان.
وللدقة، فإن كلمة "العين" لم تكن في واقع الأمر إلا تعبيراً مجازياً عن ثمانية صنابير مياه، تتوسّط الطرف الغربي للمخيم بمحاذاة الشارع الرئيس الذي يربط مدينة بيت لحم بمدينة الخليل، أنشأتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة لهيئة الأمم المتحدة، بمجرد أن فرغت من إنشاء مئات "البراكيّات" لألوف اللاجئين الذين فرّوا من قرى "وادي الصرار"، وهي قرى تقع على بعد خمسة عشر كيلومتراً غربي القدس، وأشهرها "ديربان" و"عجور" و"البريج" و"بيت نتيف" و"دير رفات" و"عرتوف" و"جراش" و"بيت عطاب".
في المخيم، اختار أهالي كلّ قرية أن يسكنوا إلى جوار بعضهم بعضاً، فباتت هناك حارة الدياربة نسبة إلى ديربان وحارة العجاجرة نسبة إلى عجور، وحارة البريجية نسبة إلى البريج، وما إلى ذلك من قرى أخرى فرّت أسماؤها منها، لترافق أبناءها اللاجئين على أراضي الشتات، ولتساهم بصياغة واقع اجتماعي وجغرافي مختلف شكلاً عمّا كانت عليه الحال قبل النكبة، وإن تشابه معه نوعاً، لا سيما في ما يتعلق بالعادات والتقاليد وعلاقات المصاهرة والتزاوج بين هؤلاء الذين طالما اعتبروا أنفسهم، على مر العصور، امتداداً اجتماعياً لأهالي قرى جبل الخليل، مع أن معظم أراضي منطقتهم كانت ملحقة إداريا بقضاء مدينة الرملة في زمن الحكم العثماني، ثم بقضاء مدينة القدس في زمن الانتداب البريطاني.
وقد ندر أن تجد في مخيم الدهيشة خلال هذه الحقبة من لا يستخدم عبارة "يا خال"، لدى مناداة جاره أو صديقه أو زميله الذي ينتمي إلى قرية أخرى. الكلّ أخوال الكلّ؛ لأن هذا ديرباني أمه عجورية كحمدان، وذاك بريجي جدته من بيت نتيف، أو العكس. كما أن التداخل بين الحارات وضيقها الشديد، فرض في بعض الأحيان وجود بيت لأسرة لاجئة من دير بيت الجمال مثلاً داخل حارة أهالي بيت عطاب، وخلق صداقات وخصومات بين الجيران أصحاب البيوت المتلاصقة. وساعد على تنامي نمط جديد من العلاقات، أساسه الأهمّ أن هؤلاء اللاجئين المنتمين أصلاً إلى طبقات مختلفة من حيث ملكياتها الزراعية السابقة، قد أمسوا بالمعنى الطبقي سواسية كأسنان المشط، وسط وحل المخيم، حيث تقدّم لهم وكالة الغوث مساعدات غذائية شحيحة ولا تسدّ الرمق، فيضطرون إلى العمل غالباً في الإنشاءات وتعبيد الطرق وجمع النفايات كي ينتزعوا لقمة الخبز لأطفالهم.
"في أيام البلاد"، وهذه عبارة شاع استخدامها بين اللاجئين، للإشارة إلى زمن ما قبل النكبة، كان مقياس الثراء والجاه والنفوذ، لاسيما في أعراف الفلاحين هو امتلاك الأراضي والماشية. أمّا النقود الذهبية، فلم تكن إلا وسيلة دفع وقبض في الصفقات الكبيرة، ولا تغني عن التبادل السلعي الذي ظلّ قائماً حتى وقت متأخر من أربعينيات القرن العشرين. لذا، فإن الحقول الكبيرة وقطعان الماعز والأبقار التي كان يمتلكها عبد الحكيم في قريته ديربان، وتجعل منه أحد أغنياء المنطقة، لم تنفعه بشيء عندما تحوّل وكلّ أفراد أسرته إلى لاجئين. وازداد الأمر سوءًا لأنه في سويعات سقوط قرى وادي الصرار كّلها أمام الهجوم الكبير الذي شنته العصابات اليهودية، كان يقوم وزوجته بزيارة إلى أهلها في عجور، ولم يسعفه الوقت ليصل إلى بضع مئات من الليرات الذهبية التي كان قد خبّأها تحت أرض مخزنٍ للأعلاف في الباحة الخلفية لمنزله.
وإذ انقلبت حال الرجل بين عشية وضحاها من الغنى إلى الفقر المدقع، وجد نفسه مضطرًا للشغل في تعبيد الطرق كالآخرين، غير أنه، وهو الذي كان قد جاوز الثانية والأربعين من دون أن يعمل عملاً يدوياً واحداً، أخفق في إرضاء أرباب العمل. أشفق عليه ولداه الكبيران، فحلّ بشير محلّه وتولي مهمة الإنفاق على الأسرة، قبل أن يذهب إلى ديربان في رحلة عودة ما عاد منها أبداً، ثم حمدان لاحقاً، أي منذ بلغ سن الخامسة عشرة، وحتى ما بعد زواجه بابنة عمه هنية بنحو عقدين كاملين.
كان الابن الشاب يتقاضى خمسة وعشرين قرشاً أردنياً كلّ يوم، ويقسمها بين أسرته الصغيرة وأسرة أبيه، تماماً مثلما تقاسما المأوى والحسرة على الابن المفقود، والأمل بالعودة يوماً إلى ديربان من دون أن يلحظ أي منهما، ولا أي لاجئ آخر، حقيقة إسهامه اليومي في صنع حياة جديدة، يطغى عليها السعي الحثيث لانتزاع لقمة العيش من أنياب غائلة الفقر، ويغيب عنها أي فعل جماعي لاستعادة الحقوق الوطنية المسلوبة، سوى تكرار رواية النكبة، ومواصلة التغني الحزين بالبلاد المسلوبة، على مسامع أبنائهم المولودين في الشتات.
ورغم ما اتصف به فعلهم هذا من عجز ظاهر، فإن توازيه مع نسبة تناسل مرتفعة اشتهرت بها المخيمات الفلسطينية، سيؤدّي بعد حين من الدهر، إلى تأسيس مفاهيم تحررية مختلفة بين أبناء الأجيال اللاحقة الذين سيكون صبري بن هنية وحمدان واحداً منهم، وسيختارون البندقية وسيلة لخوض معركة العودة إلى أرض ما عرفوها إلا في الحكايات الحزينة، ولا رأوا من صورتها شيئاً سوى الظلال الباقية في عيون آبائهم وأجدادهم.
هل كان اللاجئون الفلسطينيون يدركون ما سيحدث غداً، وهم يطلقون على مواليدهم أسماء شديدة الصلة بما حلّ بهم، ويقصّون عليهم تراجيديا النكبة، أم أنهم فعلوا ما فعلوا لمواساة أنفسهم، لا أكثر، ثم حدث أن لعب التاريخ لعبته دونما قصد منهم، وولدت الثورة من رحم العجز؟.
(كاتب فلسطيني)
*صفحات من مخطوطة رواية غير منشورة بعنوان "المجنون"