بديع خيري.. في ورشة البلاغة الشعبية

02 أكتوبر 2018
(بديع خيري)
+ الخط -

قد لا تكون سنة 1912 ذات دلالة في التاريخ المصري، إنها سنة عادية في يوميات البلد المستعمَر منذ قرابة ثلاثة عقود. لكن ما يمكن ان نسجّله في هذا العام هو أن شابَّين في منتصف العشرينات التقيا ليبدآ شراكة فنّية ستُعطي ثمرتها في 1919، تلك السنة التي تحرّكت فيها الأحداث بشكل حاسم في مصر وربما في البلاد المستعمَرة قاطبة، ووجدت تعبيراً فنّياً مكتملاً لها من خلال "الأغنية الشعبية".

في سنة 1912 تلك، التقى الشاعر بديع خيري (1893 - 1966) والموسيقي سيّد درويش (1892 - 1923)، وسوف تمثّل المرحلة التي سينغلق قوسها برحيل سيّد درويش فترة توهّج وتدفّق استثنائية، لمعت مثل شهاب في سماء بطيئة الحركة. وكأن هذا التوهّج والتدفّق كان يحتاج إلى تراكبٍ دقيق للعناصر لا شك أن انسجام صاحبَيْ "التحفجية" كان من بين عوامله.

ما بين 2012 و1919، يمكن اعتباره مرحلة تخمّر، أو بمصطلحات حديثة مرحلة "بناء فريق"، ولم يكن ذلك ممكناً من دون توفّر صداقة متينة تجعل العمل الفنّي مجرّد لحظة تبلور أفكار ومشاعر ومواقف تراكمت ونوقشت ونضجت في لقاءات مطوّلة في أماكن متفرّقة.

بالنسبة إلى خيري، ربما كانت هذه السنوات مرحلة التقاط معجَم من الحياة الشعبية، لينهض بعد ذلك بفتح مجالٍ في كلمات الأغنية يقطع مع "الوجبات الدسمة" التي طالما قدّمها فحول الزجل المصري ضمن مواضيع الحب والهجران ولوم العذول وغيرها.

يُذكر أنه وهو يقطع هذه المسافة، كان ينشر قصائده باسم مستعار "ابن النيل"، وكأنه كان يخشى ردود أفعال "حرّاس" الفن ومعاييره. وربما لولا ظهور سيّد درويش وقدرته على تحويل الشعر العامي البسيط إلى تحف موسيقية تُسقِط جميع طروحات المحافظين، ما كان لمحاولة صاحب كلمات "سالمة يا سلامة" أن تورق وتعطي ثمارها.

لا يلتقط نص خيري فقط كلاماً جاهزاً من الشارع، بل يهضم أيضاً عبارات تُنسد بلاغة شعبية عجيبة، وتستقبل أيضاً أشكال خطاب مهملة، مع لمسة من المزاح، وإضاءات على مشاهد كاملة من حياة الناس. كما كانت نصوصه تقدّم أيضاً محاكاة للهجات لها موطئ قدم في الأرض المصرية، ووجب أن تظهر في مرآة "الأغنية" مع "العم بديع"، كما يحب أن يسمّيه الجيل اللاحق له من شعراء العامية المصرية. هذا الجهد يمكن الاستناد إليه اليوم لنفهم تطوّر العامية المصرية من جهة، وكيفية تبلور اللغة المستعملة في الفن من أخرى.

الأغنية التي كتبها صاحب "ما قلتلكش أن الكترة" كانت تذهب أبعد. هناك فرع حديث في الأنثروبولوجيا يدرس "الفئات الاجتماعية"، يمكن القول إن مدوّنة بديع خيري قدّمت شيئاً من ذلك في الأغنية، طبعاً بأدوات مختلفة عن البحث العلمي، أما النتيجة فواحدة: جعل عناصر التركيبة المجتمعية مرئية، ومحاولة تقديم فهم عن "حقيقتها الداخلية". هنا نذكر أعمال مثل أغنية "الموظّفين" المعروفة بكلماتها الأولى "هز الهلال يا سيد"، أو "السقّايين"، أو "الوارثين" (على الستات يا سلام سلّم).

يتفرّع هذا الاهتمام في نصوص خيري إلى مسألة أوسع وهي رصد تغيّرات السلوكات الاجتماعية، حيث تظهر في أشعاره ظواهر المُعاكسة وبالتالي تحوّل الاختلاط بين الجنسَين إلى معطى اجتماعي، وظهور عادات مثل الذهاب إلى السينما، كما تنعكس الصعوبات الاقتصادية حين تُشير بعض الأغاني إلى غلاء المعيشة وغيرها.

ضمن نفس السياق، ولكن على مستوى آخر، ترسم مدوّنة الشاعر المصري تحوّلات العاطفة الوطنية، إذ لم يعق التبسيط في المعجم وفي هيكلة الأغنية أن تكون نصوصه جاهزة لمهمّات التعبئة وشحذ الهمم خصوصاً في لحظة ثورة 1919، ومن أبرز ما قدّم في هذا السياق نص أغنية "قوم يا مصري" التي مثّلت عبارة احتفى بها سعد زغول وجعل منها أحد شعارات الثورة.

كلّ هذه النماذج كانت ضمن المشروع المشترك بين الشاعر وسيّد درويش. لكن المشروع الذي جمعها لم يكن عبارة عن زواج كاثوليكي مثل كثير من الثنائيّات الفنّية، فقد كان كلاهما منفتحاً على آفاق وعلاقات أخرى، فمثلاً ذهب سيّد درويش أكثر من مرّة إلى نصوص الشاعر محمد يونس القاضي، وأثمر ذلك روائع مثل "زوروني كل سنة مرة" ونشيد "بلادي بلادي"، أمّا بديع خيري فكانت له مساهمات في مشروع آخر مع نجيب الريحاني وهو يضع لبنات مسرح غنائي شعبي، ثم كانت له مساهمات في مرحلة بناء صناعة سينما مصرية.

في 2012، جُمعت أعمال خيري الشعرية ونُشرت ضمن طبعة شعبية تيسّر تداولها على أوسع نطاق. كل ذلك جيّد، لكن كي يفرحنا ذلك علينا أن ننسى ربما أن هذه الخطوة تأخرّت لعقود، وهذا التأخير يُعبّر عن تاريخ ثقافي مبعثَر تعيشه مصر والبلاد العربية بشكل عام.

أكثر من ذلك، سيكون من المحزن أن لا تُقرَأ نصوصه إلّا كأغنيات، وأن تكون ميراثاً لشعراء العامية المصرية وحدهم، فلا يتوجّه صوبها مؤرّخون أو لسانيون أو باحثو علم الاجتماع وغيرهم، فيؤخَذ منها القليل ممّا يمكن أن يقدّمه، ويُترك جلّه.

في أحد برامجه، أشار المذيع والكاتب المصري إبراهيم عيسى، في سياق حديث عن النتاج المشترك بين سيد درويش وبديع خيري: "كيف لأغنيات أن يمتد بها العمر على ألسنة الناس وفي وجدانهم إلى قرابة قرن؟". قد تكون إحدى الإجابات الممكنة هي لحظة التدفّق تلك، والتي تفعّلت في منعطف من منعطفات التاريخ بأسرارها وأسبابها الموضوعية، حين جلس شاعر وملحّن على الطاولة نفسهل منذ مئة عام ونيّف.

المساهمون