الخيام المستطيلة المتجاورة تمتد من الشمال إلى الجنوب بخط شبه مستقيم، خيام سوداء مصنوعة من شعر الماعز يسكنها أفراد القبيلة، وأخرى صغيرة الحجم للزنوج والفلاحين وصنّاع الأدوات المنزلية والأسلحة، وهذه مصنوعة من الخيش أو شعر الجِمال.
أمام خيام رجال القبيلة تقف خيول عربية أصيلة دقيقة الأطراف، ضامرة البطن، متوترة، قلقة.
في الصباح تعلو ضجة المحْرَم وحركة الدخول والخروج تتزايد. تضع النساء ثلاثة أحجار كبيرة وتوقد بينها النار ويعددن عليها الطعام. العيون دامعة من الدخان، والرؤية عسيرة والأصوات النسائية تعلو كأنها تستغيث والأطفال يسرعون بين أقدامهن فتتعثر فيهم النساء ويضربنهم إن كانوا في متناول اليد.
ومع الضحى يقبل الورادون يسوقون حميراً محمّلة بقرب الماء: زنوج وفتيان وصبايا في المؤخرة يستمتعون بآخر لحظة من اللقاء والغزل. ومن رحلة ورود الماء تنشأ الزيجات المقبلة.
وعند وصول الواردين تعلو ضجة أمام الخيام، وتكتسب الوجوه تعبيراً فيه جدية وتعاسة. يسود التوتر وتدع النساء ما كنّ يزاولنه من أعمال. التوتر يسري إلى الشيخ. تزداد عيناه الحمراوان نفاذاً وتبرز عقدة بين حاجبيه. يمسك بخيزرانته ويطرق الأرض برأسها المدور الأسمر طرقات سريعة متتالية.
أمام كل خيمة يقف حمار أو اثنان، وأمام بيت الشيخ وقفت ثمانية حمير وزنجيان وثلاث نساء. كانوا متربين، دامعي الأعين، تفوح منهم روائح العرق. الزنوج يشتمون النساء، والنساء يتوسلن إلى الرب أن يزيل الزنوج والرجال جميعاً والهم الذي يعشن فيه. يحدث هذا وكلهم مستغرقون في عملهم يفكون القرب عن ظهور الحمير، ويتعاونون في نقلها إلى داخل المحرم.
عند باب المحرم تقف وضحا طويلة، مهيبة - خلف انفراجة شفتيها تلمع أسنانها البيضاء - مشيرة إلى المكان المخصّص للماء.
يشرق وجهها، تتكون غمّازتان على جانبي الفم وتقول:
- يعطيهم العافية.
تتناثر الأصوات: يعافيها..
في المحرم زوجات الشيخ الأربع، وبعض الزنجيات والأطفال وبناته وبدويّة متسوّلة. وضحا أطول الجميع، وهي المركز الذي يدورون حوله. كل الحركات تتجه من وضحا وإليها.
توقفت خيزرانة الشيخ عن طرقاتها العصبية. انتصب وسكن في جلوسه. نهض فجأة كأنه انطلق من قذيفة، مسرعاً بخطواته القصيرة، وجسده يعلو ويهبط مع كل خطوة. وظهر كالنذير في وسط المحرم: مستقيماً، قذراً، مشمئزّاً، بالغ الضآلة. قال:
- وش هالحس؟
توقف كل شي لحظة. انفرج فمه وأصبح أنفه أحد تجاعيد وجهه الكثيرة. ثم ارتفعت يده السوداء الصغيرة التي تشبه المخلب بالخيزرانة وأهوى بها على كتف زنجي يحمل قربة ماء. وجه الزنجي العريض يتقلص، وينشج. قال:
- هذي وطفا والله.
ارتفع صوت وطفا: العبد الزفر.
واندفعت خيزرانة الشيخ تهوي في كل الاتجاهات. رأى زنجياً داخلاً يحمل قربة ماء فضربه على عجيزته وساقيه وكتفه والزنجي يدب بحمله بثقة وهدوء كأن لا شيء يحدث. ووضحا تقف منتظرة انتهاء فورة الغضب.
قالت بعد قليل: علامك؟ وشنهو مزعلك؟
نظر إليها، سقطت يده إلى جانبه وقال:
- قللن حس.
استدار بخفة وعاد إلى مجلس الرجال. وارتفع صوت وضحا محايداً، نسائياً جداً وغير موجه إلى أحد بالذات:
- قللن حس يا نسوان. فيه ضيوف.
عينا البدوية المتسوّلة تضطربان بجنون. رأتها وضحا التي لا يفوتها شيء فألقت إليها برغيف خبز.
* مقطع من "بدو وزنوج وفلاحون"، 1976