29 أكتوبر 2024
بدعة إعادة الإعمار في ظل سلطة التدمير والتهجير
عبد الباسط سيدا
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
لا أحد من السوريين المحبين لشعبهم، والمخلصين لوطنهم، بغض النظر عن التصنيفات التي نسمعها هنا وهناك، كالمعارضة والموالاة، الإسلاميين والعلمانيين، العرب والأكراد، السنة والعلويين، المسلمين والمسيحيين... إلخ، يسعده الوضع الحالي الذي يعيشه الشعب السوري، سواء في الداخل الوطني أو في في الجوار الإقليمي. كما أن لا أحد من السوريين يسعده وجود القوات العسكرية من الدول المختلفة على الأرض السورية، إلى جانب المليشيات المذهبية إيرانية التحكّم، والفصائل الإسلاموية المتشدّدة التي تمارس الإرهاب، وتسعى، كما تعلن، من أجل تطبيق أيديولوجيا غير قابلة للتطبيق، ومتناقضة بالمطلق مع روحية العصر والحاجات الوطنية، وتؤدّي أدوراً وظيفية إشكالية، أساءت كثيراً إلى الثورة السورية، بل أخرجتها عن مسارها، الأمر الذي استفاد منه النظام ورعاته في المقام الأول. كما أنه لا أحد من العرب والكرد السوريين يسعده تحكّم حزب العمال الكردستاني بالورقة الكردية السورية، واستغلال عدالة القضية الكردية السورية من أجل أجنداتٍ تخصّه، أو تخص غيره، على حساب مصير كرد سورية ومستقبلهم، ودماء شبانهم وشاباتهم.
والكل يبحث عن الحل أو ينتظره، ولكن المشكلة الأساسية تتمثل في أن هذا الحل خارج متناول السوريين وإمكاناتهم جميعاً، فالحرب التي التهمت بلدهم مجتمعاً وعمراناً، لم تكن حرباً سورية في جوهرها وأصلها، بل كانت حرباً بين مشاريع إقليمية، وحسابات دولية، ركبت على مطالب السوريين العادلة في الإصلاح والتغيير، لتحوّلها إلى حربٍ عبثيةٍ مدمرة، ما كان لها أن تكون لولا التزام رأس النظام السوري بتعليمات راعيه الإيراني وأوامره. أعلن النظام الحرب على الشعب السوري بكل مكوناته، وطبق استراتيجية تحويل الثورة السلمية التي شاركت فيها المكونات السورية جميعها إلى صراع تناحري بين سلطةٍ "علمانية"، "حامية" للأقليات، وحشد من الفصائل الإسلاموية المتطرفة. ولتنفيذ هذه الاستراتيجية، اعتمد النظام "العلماني" على قوات وخبرات وأموال نظام ولي الفقيه ومليشياته المذهبية، خصوصا حزب الله. كما عاد النظام المعني إلى أوراقه القديمة، فاستنجد بالمتطرفين في أصقاع الدنيا، لتجميعهم ثانية، ويبثهم سموماً في المناطق التي انسحب منها، أو التي فقد السيطرة عليها.
وسلم النظام نفسه قيادة المناطق العسكرية للحرس الثوري الإيراني، وأذرعه من المليشيات المذهبية، ومارس الجميع القتل والتجويع والترويع بحق السوريين، دمروا المدارس والمشافي،
ولم يراعوا أية حرمةٍ أو محرّمات من جهة الزمان والمكان والإنسان. ومع تصاعد الأحداث، تدخلت القوى الدولية والإقليمية. تدخل الروس والأميركان، وتدخل الأتراك، ليصبح الميدان السوري ساحةً للصراع بين المشاريع والحسابات الدولية والإقليمية. وتحول السوريون إلى أدواتٍ في خدمة أصحاب تلك المشاريع والحسابات الذين تمكّنوا، مع الوقت، من الهيمنة على القوى الميدانية، وحتى على مؤسسات المعارضة الرسمية، لتتحوّل الأخيرة إلى مجرد واجهاتٍ تتحرك وتصدر البيانات وفق مشيئة الآخرين، وليس بناء على المصالح الحقيقية للسوريين.
أما النظام نفسه، فقد تحول إلى مجرد أداة وظيفتها شرعنة الوجود الروسي والإيراني في سورية، بل وإضفاء صفة القانونية على صفقات الابتزاز التي كانت على حساب الشعب السوري، صفقات شملت تأجير المرافق الاستراتيجية، وعقود احتكار القطاعات المغرية بفعل أرباحها الكبيرة المضمونة.
وعلى الرغم مما يروج هنا وهناك حول إمكانية الحل، أو قرب الوصول إليه، عبر اللجنة الدستورية، والانتخابات التي من المفروض أن تكون لاحقاً، استناداً إلى خلاصات اجتماعات فيينا (أكتوبر/ تشرين الأول – نوفمبر/ تشرين الثاني 2015)، والقرار الأممي ديسمبر/ كانون الأول 2015؛ إلا أن المؤكد الذي تثبته كل المؤشرات والقرائن هو أن الموضوع السوري بات جزءاً من الوضع الإقليمي، بدءاً من العراق وصولاً إلى ليبيا، وربما إلى ما بعدها، والمقاربات الدولية له. وتتشخص العلامة الفارقة في هذا الوضع في عدم فاعلية، إن لم نقل غياب، الدور العربي، مقابل القوى الإقليمية الأخرى، ونعني بها تركيا وإيران واسرائيل. وعلى المستوى الدولي، هناك حضور روسي وآخر أميركي، مقابل تراجع ملحوظ في الدور الأوروبي لأسباب عديدة.
وقد حاول الروس أكثر من مرة إقناع العالم بأن الوضع في سورية قد حُسم لصالح النظام؛ وركّزوا على موضوع عودة اللاجئين وإعادة الإعمار، واستغلوا في ذلك موضوع الارتباك وعدم الاستقرار في الموقف الأميركي، نتيجة التباين بين توجهات الرئيس ترامب وأركان إدارته في الدفاع والاستخبارات والخارجية، كما تمكّنوا من استمالة تركيا، وضمها إلى محور أستانة، لأسباب عدة تخص الوضع التركي الداخلي نفسه، وأخرى لها صلة بالعلاقة المضطربة بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية تحديداً، والدول الأوروبية الغربية بصورة عامة.
هذا إلى جانب العلاقة غير السوية بين تركيا والسعودية التي تُضعف موقفي الجانبين، وقد خدم ذلك كله السياسة الروسية في الإقليم، ومكّن روسيا من الاضطلاع بدور أساسي في سورية. ولكن المفارقة هنا تتجلى في سعي دول عربية، ومنها مصر التي تنسق في الظاهر مع السعودية في أكثر من مكان، ترى أن الانفتاح على النظام السوري هو المدخل لإعادة التوازن إلى المعادلات الإقليمية عبر تحجيم الدور الإيراني؛ بل أن بعضهم يبالغ في التفاؤل إلى حد
الادعاء بأن هذا الانفتاح سيكون مقدمةً لحل عام للموضوع السوري بأسره، فهناك من يدعو إلى إعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية. وهناك من ينسّق بأشكالٍ مختلفة، معلنة وغير معلنة، مع النظام المعني. ولكن اللافت أكثر من غيره أن بعضهم يدعو إلى استخدام الأموال العربية، وإلى حد ما الأوروبية، في موضوع إعادة إعمار سورية بوجود النظام والروس والإيرانيين، حتى يبدو الموضوع كأنه دعوة إلى مكافأة النظام لقاء مع فعله بالسوريين وسورية؛ وفتح المجالات أمام مافيات الفساد المحلية والإقليمة والدولية، لكسب المزيد، ومن
دون إعطاء أي اعتبارٍ لتضيحات السوريين وتطلعاتهم.
ولا ننكر أهمية موضوع إعادة الإعمار، ولا إنه سيكون، عاجلاً أم آجلاً، من الموضوعات الحيوية التي ستكون في مقدمة أولويات السوريين. ولكن لهذا الموضوع مقدماته ومقوماته، فالنظام الذي دمر البلد بإرادة الآخرين وبسلاحهم وإمكاناتهم لا يمكنه في أي يوم أن يكون الجهة الضامنة لعملية إعادة بناء البلد، والإشراف عليها، طالما أنه ما زال يتعامل مع الغالبية الغالبة من السوريين بعقلية الانتقام والثأر والتخوين، ويتبجّح بنشوة الانتصار على أشلاء السوريين، وتدمير مدنهم العامرة منذ بدايات التاريخ المعروف للمنطقة، فما تعانيه سورية راهناً لا يتمثل في الخراب العمراني وحده، بل يشمل الخراب المجتمعي أيضاً، وهذا أخطر وأقسى، ولا يمكن لأي نهوض عمراني أن يتحقق من دون نهوضٍ مجتمعي، أساسه ترميم وحدة النسيج السكاني الوطني السوري، النسيج الذي تهتك بفعل ممارسات النظام المستبد الفاسد عقودا. وجاءت الحرب الظالمة التي أعلنها النظام ذاته على السوريين، لتفتت هذا النسيج، وتدفع ملايين السوريين نحو البحث عن ملاذات آمنة، سواء في الداخل الوطني أم في الجوار الإقليمي، وحتى في المهاجر المنتشرة في سائر أنحاء الأرض.
ما نحتاجه سورياً حوار وطني معمق بين الفعاليات السورية في مختلف المجالات، وعلى جميع المستويات، يمهد لمصالحة حقيقية لن تستعيد سورية عافيتها من دونها. وامكانات هذا الحوار
معدومة في وجود هذا النظام الذي بات وجوده الفيزيائي مرتبطاً بإرادة الروس والإيرانين، وأصبح جزءاً عضوياً من الصراع الإقليمي الدولي الذي يخيّم على منطقتنا؛ هذا الصراع الذي يستخدم أطرافه موارد المنطقة البشرية والمادية في عملية السعي من أجل تحقيق أهدافٍ لا تتقاطع مع أهداف شعوبها، ولا تضمن مستقبلاً مطمئناً لأجيالها المقبلة.
أما أن تبلغ"الجرأة" ببعضهم، ومنهم سفير مصري سابق كان عضوا في فريق المبعوث الأممي السابق إلى سورية، دي ميستورا، إلى درجة مطالبة الدول الخليجية بتقديم الأموال للنظام، ومن خلاله إلى قنوات الفساد الإيرانية والروسية، بحجة إعادة الإعمار، وبذريعة التمهيد لعودة اللاجئين السوريين، فهذا يؤكد شكوكا كانت تحوم حول مصداقية ومهنية الفريق المشار إليه، فمثل هذه المواقف تؤكد أن غرض دي ميستورا من ضم هذا السفير إلى جانب آخرين إلى فريقه إنما كان تأمين مقومات استمرارية مهمته، وليس إيجاد حل لمحنة الشعب السوري الذي عانى، ويعاني الأمرّين من جرائم النظام وداعميه. كما أن الكثر عانى الكثير من لا مبدئية المسؤولين الأمميين، وصمتهم المريب في مواجهة كل القتل والدمار الذي تعرّض له السوريون أعواما طوالا قاسية، من قصف وترويع بكل أنواع الأسلحة، وأمام مرأى ومسمع العالم أجمع.
وسلم النظام نفسه قيادة المناطق العسكرية للحرس الثوري الإيراني، وأذرعه من المليشيات المذهبية، ومارس الجميع القتل والتجويع والترويع بحق السوريين، دمروا المدارس والمشافي،
أما النظام نفسه، فقد تحول إلى مجرد أداة وظيفتها شرعنة الوجود الروسي والإيراني في سورية، بل وإضفاء صفة القانونية على صفقات الابتزاز التي كانت على حساب الشعب السوري، صفقات شملت تأجير المرافق الاستراتيجية، وعقود احتكار القطاعات المغرية بفعل أرباحها الكبيرة المضمونة.
وعلى الرغم مما يروج هنا وهناك حول إمكانية الحل، أو قرب الوصول إليه، عبر اللجنة الدستورية، والانتخابات التي من المفروض أن تكون لاحقاً، استناداً إلى خلاصات اجتماعات فيينا (أكتوبر/ تشرين الأول – نوفمبر/ تشرين الثاني 2015)، والقرار الأممي ديسمبر/ كانون الأول 2015؛ إلا أن المؤكد الذي تثبته كل المؤشرات والقرائن هو أن الموضوع السوري بات جزءاً من الوضع الإقليمي، بدءاً من العراق وصولاً إلى ليبيا، وربما إلى ما بعدها، والمقاربات الدولية له. وتتشخص العلامة الفارقة في هذا الوضع في عدم فاعلية، إن لم نقل غياب، الدور العربي، مقابل القوى الإقليمية الأخرى، ونعني بها تركيا وإيران واسرائيل. وعلى المستوى الدولي، هناك حضور روسي وآخر أميركي، مقابل تراجع ملحوظ في الدور الأوروبي لأسباب عديدة.
وقد حاول الروس أكثر من مرة إقناع العالم بأن الوضع في سورية قد حُسم لصالح النظام؛ وركّزوا على موضوع عودة اللاجئين وإعادة الإعمار، واستغلوا في ذلك موضوع الارتباك وعدم الاستقرار في الموقف الأميركي، نتيجة التباين بين توجهات الرئيس ترامب وأركان إدارته في الدفاع والاستخبارات والخارجية، كما تمكّنوا من استمالة تركيا، وضمها إلى محور أستانة، لأسباب عدة تخص الوضع التركي الداخلي نفسه، وأخرى لها صلة بالعلاقة المضطربة بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية تحديداً، والدول الأوروبية الغربية بصورة عامة.
هذا إلى جانب العلاقة غير السوية بين تركيا والسعودية التي تُضعف موقفي الجانبين، وقد خدم ذلك كله السياسة الروسية في الإقليم، ومكّن روسيا من الاضطلاع بدور أساسي في سورية. ولكن المفارقة هنا تتجلى في سعي دول عربية، ومنها مصر التي تنسق في الظاهر مع السعودية في أكثر من مكان، ترى أن الانفتاح على النظام السوري هو المدخل لإعادة التوازن إلى المعادلات الإقليمية عبر تحجيم الدور الإيراني؛ بل أن بعضهم يبالغ في التفاؤل إلى حد
دون إعطاء أي اعتبارٍ لتضيحات السوريين وتطلعاتهم.
ولا ننكر أهمية موضوع إعادة الإعمار، ولا إنه سيكون، عاجلاً أم آجلاً، من الموضوعات الحيوية التي ستكون في مقدمة أولويات السوريين. ولكن لهذا الموضوع مقدماته ومقوماته، فالنظام الذي دمر البلد بإرادة الآخرين وبسلاحهم وإمكاناتهم لا يمكنه في أي يوم أن يكون الجهة الضامنة لعملية إعادة بناء البلد، والإشراف عليها، طالما أنه ما زال يتعامل مع الغالبية الغالبة من السوريين بعقلية الانتقام والثأر والتخوين، ويتبجّح بنشوة الانتصار على أشلاء السوريين، وتدمير مدنهم العامرة منذ بدايات التاريخ المعروف للمنطقة، فما تعانيه سورية راهناً لا يتمثل في الخراب العمراني وحده، بل يشمل الخراب المجتمعي أيضاً، وهذا أخطر وأقسى، ولا يمكن لأي نهوض عمراني أن يتحقق من دون نهوضٍ مجتمعي، أساسه ترميم وحدة النسيج السكاني الوطني السوري، النسيج الذي تهتك بفعل ممارسات النظام المستبد الفاسد عقودا. وجاءت الحرب الظالمة التي أعلنها النظام ذاته على السوريين، لتفتت هذا النسيج، وتدفع ملايين السوريين نحو البحث عن ملاذات آمنة، سواء في الداخل الوطني أم في الجوار الإقليمي، وحتى في المهاجر المنتشرة في سائر أنحاء الأرض.
ما نحتاجه سورياً حوار وطني معمق بين الفعاليات السورية في مختلف المجالات، وعلى جميع المستويات، يمهد لمصالحة حقيقية لن تستعيد سورية عافيتها من دونها. وامكانات هذا الحوار
أما أن تبلغ"الجرأة" ببعضهم، ومنهم سفير مصري سابق كان عضوا في فريق المبعوث الأممي السابق إلى سورية، دي ميستورا، إلى درجة مطالبة الدول الخليجية بتقديم الأموال للنظام، ومن خلاله إلى قنوات الفساد الإيرانية والروسية، بحجة إعادة الإعمار، وبذريعة التمهيد لعودة اللاجئين السوريين، فهذا يؤكد شكوكا كانت تحوم حول مصداقية ومهنية الفريق المشار إليه، فمثل هذه المواقف تؤكد أن غرض دي ميستورا من ضم هذا السفير إلى جانب آخرين إلى فريقه إنما كان تأمين مقومات استمرارية مهمته، وليس إيجاد حل لمحنة الشعب السوري الذي عانى، ويعاني الأمرّين من جرائم النظام وداعميه. كما أن الكثر عانى الكثير من لا مبدئية المسؤولين الأمميين، وصمتهم المريب في مواجهة كل القتل والدمار الذي تعرّض له السوريون أعواما طوالا قاسية، من قصف وترويع بكل أنواع الأسلحة، وأمام مرأى ومسمع العالم أجمع.
عبد الباسط سيدا
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
عبد الباسط سيدا
مقالات أخرى
15 أكتوبر 2024
17 سبتمبر 2024
03 سبتمبر 2024