بحضور العالم

12 يوليو 2016
لوحة لـ ماتيس(Getty)
+ الخط -

قد تكون جملة واحدة لأدونيس حول أسلوب الشاعر الفرنسي، إيف بونفوا، بليغة كفايتها في التعريف بمدماك مهم في مشروع هذا الشاعر.

هذه الجملة نطق أدونيس بها ردًّا على سؤال وجهه إليه عبده وازن عام 2010، حول توفّقه في ترجمة سان جون بيرس أكثر مما وُفّق في ترجمة إيف بونفوا، وأرجع فيها سبب ذلك إلى أن بونفوا يكتب شعره بحضور العالم. وسان جون بيرس يكتب شعره مقتحمًا العالم، معيدًا تكوينه.

لا ننوي التخويض في هذا التفسير الخاص بشأن سبب عدم التوفيق في الترجمة، برأي السائل، بمدى ما نرمي إلى تفكيك عبارة "بونفوا يكتب شعره بحضور العالم" في قصائده.

فمع رحيل بونفوا استحضرت بعض تقارير قوله حين مُنح "جائزة الأركانة" في المغرب (2013) إن "الشعر أدب ذو طابع عالمي، ويوفر فرصة للتلاقح بين مختلف الثقافات".

واستحضر بعض آخر اعتباره "أنّ الشعر هو عمل ومصير. وهو أيضا ذاكرة، ذاكرة الكثافة الضائعة"، وأن الشعر بالنسبة له "ضدّ القوى المدمّرة والتخريبيّة"، وهو "مجال للنقد"، و"ملتقى للفن والفلسفة والتساؤل"، ولذا ظلّ يرفض أن يكون الشاعر منغلقًا على ذاته، بل عليه أن يكون منفتحًا على الآخر والعالم والطبيعة، وعلى مشاهد خارجيّة تحفل بها الحياة اليوميّة.

هل في هذا ما يسعف في تفسير معاني "كتابة الشعر بحضور العالم"؟

كأنّنا ببونفوا يدعو الشعراء إلى أن "يلعبوا" ورقة الكينونة ضد إقحام "ما يجب أن يكون"... عبر ما يسمى "إعادة التكوين".
وليس بونفوا الشاعر الوحيد الذي قدمته فرنسا خلال القرن العشرين الفائت على جناح هذه
الرؤية للشعر والأدب.
وربما يجدر أن نذكر من مجايليه شاعرًا وكاتبًا آخر هو برنار نويل، الذي لا ينفك يؤكد أن الشعر هو مكان للمقاومة كاد أن يقول الوحيد، ففيه تتحدّى اللغة ما تحاول أن تفرضه وسائل الإعلام.
ولدى عودتي الآن إلى حوارات أدلى بها نويل، كان أكثر ما لفتني قوله في أحدها قبل نحو عقدين من الزمان: ما يزعجني أن كل الأنظمة المغلقة كانت دائمًا تحلم بخلق تصوّر فكريّ مشترك عام يدور ويتحرّك من خلال كل المواطنين، بمعنى أن يفكر كل العالم بالطريقة نفسها، والشعر ليس شيئًا يدخل في إطار الإعلام ولا في إطار التفسير الذي يتعب مادته. من هنا يحتفظ النص الشعريّ بتلك الكثافة التي هي في رأيي صاحبة السيادة.
يعتقد نويل أيضًا أن الشعر هو أصلًا مقاوم لأنه ببساطة المساحة الوحيدة، التي لا تخضع للتجارة، وهذا هو المهم. ويؤكد أن الشعر لا يخضع للإعلام ولا يظهر من خلاله تقريبًا.
أمّا الرهان الأساسي لبونفوا فهو يتمثل في قدرة الثقافة على أن تتحدّى قوى الخراب والتدمير.
وهو رهان شبه مطلق يبقى مرهونًا بمنطلق فحواه مدّ خط أفق الثقافة نحو الكون كافة.
ولعلّ الخيط الذي ينظم مسيرته الإبداعية، هو ذلك الخيط الذي يرى في الثقافة حقلًا بلا ضفاف، تورق في تربته أصناف شتى من أشجار الإبداع الباسقة، وتتقاطع فيه الكلمة الراقصة في وهج الضوء مع فكرة الحرية في التحليق نحو السماء.
في المستوى التطبيقي ينسحب لعب ورقة الكينونة فضلًا عن الشعر على الكتابات المتنوعة عن الأمكنة، وخصوصًا من ذلك الصنف الذي يخلق حالة وجدانية كاملة، ينقلها أحيانًا بتفاصيلها إلى القارئ من دون اللجوء إلى حلول أدبية مألوفة من وصف وتشبيه.
وتثير كتابات في هذا المضمار جملة من التساؤلات المهمة، لأنها تزخم ببساطة مذهلة.
فهي تفرض التساؤل عن الشكل وأساليب السرد السلسة، التي تُعَدّ سمة من سمات الكتابة الإبداعية.
كما أنها تغري بالتساؤل حول معنى الكتابة عن مكان، إذا لم يمتلك الكاتب رؤية دقيقة للعالم، وعينًا لاقطة تمكّنه من تحويل المشهد البصري إلى كيان متحرك عبر الأوراق، يبث حميمية العلاقة مع الناس والأمكنة، من خلال كتابة مكثفة محمّلة بمشاهد أشبه ببورتريهات متناسقة، تمكّن الكاتب من اختيارها والبناء عليها ببصمة مميزة.
وبرحيل شاعر "حضور العالم" نتساءل: ألا يشكل الرهان بمواصفاته تلك، في الوقت ذاته، هجسًا بثقافة حداثية، بمعنى ثقافة معاصرة وليس ثقافة تغريب؟.
أفليست الثقافة الحداثية هي التي تصاغ بمنطق العصر، وتتخذ من النديّة الثقافية مقياسًا للتفاعل مع الثقافات المعاصرة حتى يكون الحوار معها ممكنًا ومثمرًا؟.


دلالات
المساهمون