الحرب التي انتهت في العاصمة الليبية طرابلس وجوارها تركت جروحاً كبيرة مفتوحة، لعلّ أبرزها قضية المفقودين، التي تتلازم مع قضية الكشف عن مقابر جماعية في العاصمة وفي مدينة ترهونة، جنوبي شرق طرابلس
مع الاهتمام الدولي الواسع بقضية المقابر الجماعية التي عُثر عليها في مدينتي ترهونة وطرابلس، بعد انتهاء الحرب فيهما، وانسحاب مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، في مايو/ أيار الماضي، تستمر الجهود الرسمية الحثيثة للكشف عن ملابسات القضية وحجمها، بما يترك قضية المفقودين من جراء الحرب مفتوحة، لا سيما لدى أهاليهم.
في هذا الإطار، يستمر إبراهيم الجديدي، وهو أب لأحد المفقودين في ترهونة، في مراجعة فروع وزارة الداخلية المعنية بنتائج جهود البحث عن المفقودين في المقابر الجماعية وتحديد هوياتهم، بعدما فقد ابنه في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أثناء رجوعه من طرابلس الى مدينة ترهونة مسقط رأسه. يقول الجديدي لـ"العربي الجديد" إنّ "الجهات المسؤولة، على رأسها الهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين، لم تعلن عن كامل نتائج بحثها بسبب الاستمرار في عمليات البحث، لكنّني متمسك بأمل العثور على ابني حياً". وتتزامن زيارات الجديدي إلى الجهات المعنية في طرابلس مع جهود "الخيرين من أصدقائه" في شرق البلاد، بحثاً عن ابنه حياً في معتقلات حفتر، على خلفية أنباء تفيد بنقل مليشيات حفتر عشرات من المعتقلين معها أثناء انسحابها. لكنّه يؤكد أنّ نتائج تلك الجهود لم تؤدِّ إلى كشف مصير ابنه. وكان الشاب المفقود قد غادر طرابلس إلى ترهونة لزيارة أجداده، علماً أنّه تلميذ ثانوي ولا علاقة له بالمسلحين والتجاذبات السياسية والمسلحة القائمة في البلاد.
ولا تتطابق البلاغات التي تلقتها مراكز الشرطة من قبل أسر حول فقدان أبنائها خلال الحرب التي قادها حفتر طوال عام على طرابلس، مع أعداد الجثامين في المقابر الجماعية. وبحسب مصباح عاشور، عضو إحدى فرق الهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين، فإنّ عدد الجثث التي أعلن عن العثور عليها حتى الآن أكبر من عدد المفقودين. وأعلنت الهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين، التابعة لوزارة داخلية حكومة الوفاق، قبل أيام، عن انتشال 238 جثة وعدد من الرفات والأشلاء. يتابع عاشور لـ"العربي الجديد" أنّ من بين هذا العدد 26 جثة متفحمة وأشلاء و5 جثث متحللة ألقيت في العراء، مؤكداً أنّ العدد الكلي للجثث لا يتوافق مع عدد المفقودين الذين وصل إلى 206 حتى الآن. لكن، تبدو الأرقام غير نهائية، مع تزايد عدد الجثث، إذ أعلنت الهيئة عن العثور على جثة مجهولة الهوية وجدت متفحمة في مزرعة بمنطقة عين زارة بطرابلس بعد ورود بلاغ من أحد المواطنين عنها.
وبينما يؤكد جابر القرمادي، العضو بجمعية الرقيب الحقوقية الأهلية، أنّه حصل على معلومات من التحقيقات الأولية تشير إلى أنّ أغلب الجثث التي عثر عليها في تلك المقابر تعود لمدنيين خطفوا على الهوية من قبل مليشيات حفتر، خصوصاً مليشيات الكاني التي كانت تسيطر على ترهونة، يضيف أنّ "تلك التحقيقات أكدت أنّ المليشيات خطفت في بعض الأحيان عائلات بكاملها تعود في أصولها إلى مناطق تسيطر عليها حكومة الوفاق، ويشارك أهل تلك المناطق في القتال ضد حفتر وقامت بتصفية تلك العائلات". يضيف القرمادي لـ"العربي الجديد" أنّ "التحقيقات أثبتت أنّ بعض من جرت تصفيتهم هم سائقو سيارات بضائع تدخل إلى ترهونة، ومن بين الوقائع المشهورة تصفية أربعة أشقاء من أسرة النعاجي داخل ترهونة". ويلفت القرمادي إلى أنّ هناك عشرات الجثث أيضاً في مستشفى ترهونة ومرافق حكومية أخرى، تركت من دون دفن وما زالت هويات أصحابها غير محددة حتى الآن، بسبب استمرار التحقيقات في ملابسات تلك الجرائم.
أما عاشور فيشير إلى أسباب أخرى لعدم تحديد الهويات من بينها تأخر انتشال جثث عثر عليها وهي مفخخة، لتتحول إلى أشلاء لاحقاً بسبب انفجارها أثناء محاولة تفكيك الألغام التي ألصقت بها بشكل احترافي. ويتابع المسؤول الحكومي أنّ "الإمكانات المحلية في التعامل مع الأشلاء لتحديد هويات أصحابها ضعيفة ولا تناسب حجم الكارثة"، مشيراً إلى أنّ البلاغات التي وصلت في أوائل أيام تحرير ترهونة وطرابلس تجاوزت الخمسين، عن وجود أشلاء وجثث متفحمة وأخرى متحللة، ألقيت في العراء من دون دفن.
وما زالت عشرات الجثث المتحللة والمتفحمة والأشلاء في ثلاجات الموتى بمستشفيات العاصمة، من بينها المركز الطبي، حيث يؤكد الطبيب مصطفى التركي، من المركز، أنّها تنتظر جهوداً دولياً لدعم الخبرات والجهات المحلية لتمكينها من الحصول على تجهيزات متقدمة لفحص هذه الجثث والكشف عن هوية أصحابها. وأمام الصدمة التي يعيشها أهالي المفقودين يستقبل المركز، بحسب التركي، عشرات الطلبات من الأهالي للتعرف على تلك الجثث، في انتظار الجهود الرسمية في الكشف عن جميع الجثث في المقابر الجماعية.