بحثاً عن مخدّر كامل

03 مايو 2020
+ الخط -
اليوم: كان يمكن لهذه الجلبة التي يُحدثها السرير المدفوع بسرعة إلى غرفة العمليات أن تكون عادية، لولا سلسلة وقائع جعلتها أزيد ضجيجًا، فمن جهةٍ حدثت الجلبة في أثناء حظر التجوال "الجزئي" المفروض على المدينة لمكافحة تفشّي الوباء، فساعدها الهدوء المقترن بضآلة عدد المراجعين أن تكون مسموعةً، يتردّد صداها في أرجاء المستشفى كلّه، خصوصًا مع ندرة أعداد المراجعين.
أما السبب الآخر فيتصل بشخص المريض ذاته، الممدّد على السرير، فقد لمس المسعفون غرابة أطواره، منذ اللحظة التي أوصلته بها سيارة الإسعاف إلى باب الطوارئ، وتبدّى ذلك حين حاولوا بسط جسده على السرير؛ لكنه كان ينكمش في جزء واحد منه، تاركًا الأجزاء الأخرى فارغة. حاولوا مرّاتٍ عدة أن يسحبوه إلى الجزء الفارغ بلا جدوى؛ إذ سرعان ما يعود إلى وضعه "الجزئيّ" السابق، فاضطرّوا، في نهاية المطاف، إلى تركه وشأنه، وآثروا أن يهرعوا بسريره إلى غرفة العمليات؛ بأمرٍ من الطبيب الذي لمس ضرورة إخضاعه لعمليّة عاجلة.
أغرب من ذلك أن المريض لم تكن تبدو عليه أي أعراض خوفٍ أو رعب حيال الأحداث الطبيّة التي يعايشها، بل كان يبدو مستكينًا وترتسم على شفتيه ابتسامة طمأنينةٍ لا تتلاءم ووضعه الصحيّ المتجهّم، لا سيّما حين سمع الطبيب يتحدّث عن "العملية العاجلة"؛ إذ انصرف ذهنه مباشرة إلى إبرة التخدير التي ستنشله من حالة "الوعي" التي بات يمقتها.
كان في أمسّ الحاجة إلى مخدّر قويّ ينسيه الحياة "الجزئيّة" التي عايشها منذ سنوات سحيقة، والتي تآلف معها واقعيًّا، لولا العصر الكورونيّ البغيض الذي حطّ رحاله في المدينة أخيرا، والذي عاد ليذكّره بواقعه "الجزئيّ" الذي يمقته.
في الممرّ المؤدي إلى غرفة العمليات، كانت المقاعد الفارغة على الجانبين تمرّ سريعة، ويمرّ معها شريط سريع في ذاكرة المريض الممدّد "جزئيًّا" على السرير، وفي ذهنه يتردّد صوت مذيع نشرة الأخبار الصباحية لهذا اليوم، حين "زفّ" خبر "رفع الحظر جزئيًّا" عن المدينة، وكأنه يزفّ نبأ انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، فتعاظم انكماشُه حين تقاطع "الجزء" مع أجزاء أخرى خضع لها مطولًا كمواطن عربيّ، وكانت تخصم من رصيد حقوقه المهضومة.
تذكّر، مثلًا، حين أقنعه الطغاة أن عليه أن يتنازل عن "جزءٍ" من حريته، لقاء حرية الآخرين، فاكتشف لاحقًا أنه خسر حريته كلها؛ ليس من أجل "الآخرين"، بل من أجل الطغاة فقط، وهي عين التنازلات "الجزئية" التي قدّمها، وخسر لقاءها نصيبه من "الثروة الوطنية" التي صبّت في جيوب المستبدّين والانتهازيين والمفسدين، وخسر فلسطين برمّتها حين قبل بـ"جزء" واحد منها، عندما أقنعه طغاة آخرون بضرورة الخضوع لـ"الأمر الواقع".
تفاقمت عقدة "الجزء"، أيضًا، عندما اكتشف أن عليه أن يتنازل عن "جزء" من "ليلاه" للمجتمع الذي يحاصره بأعراف وتقاليد لا تتيح له أدنى درجات "الجنون"، كأن يعزف في ليلةٍ ممطرة تحت نافذتها .. وأن يرقص على طبل أفريقي رقصة النار حول بيتها، غير أن "الوقار" وقف كشرطيّ آداب بينهما، فخسر ليلى والجنون الجميل، معًا.
عمومًا، كان يمكن أن يمرّ خبر رفع الحظر "جزئيًّا"، أيضًا، كمّا مرّت أجزاء حياته المبتورة كلها، لولا أن تبع المذيع الأول مذيع "وقور" آخر ظهر بابتسامة خريفية ذابلة، ليقدّم النشرة الجوية الموجزة. تفاءل المريض بعض الشيء، وهو يتذكّر الرعد والمطر، وكيف كان يخلع المعطف والثياب الشتوية الثقيلة عن جسده ليستقبل العاصفة، غير أن المذيع وجّه إليه اللكمة الأخيرة، حين نطق بكلمات صحراوية جافّة: "يكون الطقس اليوم غائمًا جزئيًّا".
انهار المريض تمامًا، بعد تلك العبارة، وسقط أرضًا بأجزائه كلها هذه المرّة، فاقدًا القدرة على النطق، ولم يعد يحلم حينها إلا بمخدّر قوي يخطفه من هذا الوعي اليابس. كان موشكًا على تحقيق حلمه الأخير، حين وصل إلى غرفة العمليات مبتسمًا، غير أن الطبيب اللعين أبى إلا أن يكمل "الجزء" الأخير من الصدمة، حين قال: "احقنوا المريض بمخدّر جزئيّ".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.