لو كنت ولدت في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي لأسرة تنتمي لزمن ما يسمى بالصحوة الإسلامية، ستكون قد عشت قرابة عقدين من الزمن مغيّباً عن كل ما له علاقة بالفنون السبعة المعروفة، إلا قليلاً جداً، حتى لو كان رب الأسرة قد عمل في فترة مبكرة من حياته في مهنة لها علاقة بالفن وهي تدريس الموسيقى.
باستثناء فيلمي السينما التاريخيين الشهيرين للمخرج الراحل مصطفى العقاد وهما "الرسالة"، وفيلم "أسد الصحراء"/ "عمر المختار"، الذي يتناول حياة البطل الليبي الكبير وكفاحه ضد الاحتلال الإيطالي لبلاده.
وباستثناء هذين الفيلمين ومسرحية كوميدية غير مشهورة للكاتب علي سالم، داعية تطبيع العلاقات والسلام مع إسرائيل الأشهر، اسمها شقلبة، تتناول بسخرية الديكتاتورية وحكم الفرد والانقلابات العسكرية في دول العالم الثالث، والمسرحية لا يوجد فيها دور واحد لسيدة، ما عدا ذلك لن تكون قد تعرفت على نوع آخر من الفن الذي كان يأتيك عن طريق شرائط الفيديو في نسخها "الإسلامية". لكنك بالطبع ستكون قد سمعت عن مغنٍ بريطاني اسمه كات ستيفنز احتفت به دول الخليج أيّما احتفاء بعدما تحوّل للديانة الاسلامية وأصبح اسمه يوسف إسلام. لا بد أنك ستكون قد سمعت عن مغنٍ أميركي اسمه مايكل جاكسون كان يُصوَّر لنا على أنه عدو الاسلام والمسلمين الأول والأخطر، كانت سيرته دائماً ما تأتي مصحوبة باللعنات. كان في مخيّلتي حتى وقت ليس ببعيد، قبل أن أبدأ حتى في سماعه أو أرى صورته، تجسيداً للشيطان، ولا أدري حتى الآن لماذا كانوا يكرهونه بتلك الطريقة رغم أنهم عادوا وأطلقوا عليه شائعة تحوّله للاسلام قبل وفاته!
سيكون أول مَن تقابله من الفنانين وتراه وجهاً لوجه وتسلّم عليه يداً بيد هو نجم السينما السابق والفنان "التائب" حسن يوسف، بعد أن طالت لحيته في احتفالية كبيرة أقيمت له هو وزوجته نجمة السينما السابقة التي أصبحت الحاجه شمس البارودي، قبل أن يعود الفنان حسن يوسف مرة أخرى إلى "أحضان الشيطان".
كان الفن في عمومه محرّماً ومن الكبائر، ففن التصوير والنحت محرمان لأنهما يماثلان خلق الله، والملائكة لا تدخل البيوت التي بها صور أو تماثيل. امتد الأمر إلى لعب الأطفال، فرؤوس العرائس تُقطع أو تمنع من الأصل لأنها عارية، ولم تسلم حتى لعبة الشطرنج، فالصليب الذي على رأس الملك يُكسر وتشوّه وجوه باقي القطع.
والغناء والموسيقى محرمان لأنهما مزامير الشيطان، وكان هناك حديث مرعب يروّج مفاده أن مَن يستمع إلى الموسيقى يصب في أذنيه يوم القيامة الزيت المغلي أو الرصاص المذاب. لا أتذكر على وجه الدقة، لكن هذا الحديث ظل يخيفني ويلاحقني فترة طويلة من حياتي. وحتى الروايات والأعمال الأدبية كانت محرّمة والمجلات الفنية والثقافية كانت ممنوعة.
في مرحلة لاحقة، سأتعرف على الأناشيد الإسلامية بدف وبدون دف، وثلاثة أفلام سينمائية أخرى في "نسخها الاسلامية" كنا نتبادل أشرطتها كما يتبادل الآخرون المجلات الاباحية والمخدرات، وكانت طقوس مشاهدتها وسط التجمعات الإخوانية تحبس الأنفاس. الأول هو فيلم "البريء"، تأليف الكاتب والسيناريست وحيد حامد، والفيلمان الآخران هما "احنا بتوع الأتوبيس" و"ما وراء الشمس"، قام بأدوار البطولة فيهما الممثل عادل إمام. كانت الأفلام الثلاثة تتناول الحقبة الناصرية، وما حدث في معتقلاتها وسجونها من تعذيب وحشي وانتهاكات وجرائم قتل بحق المعتقلين السياسيين، وفي القلب منهم معتقلي جماعة الإخوان المسلمين.
حين أفكر في الأمر الآن وأنا أستمع إلى الأصوات القبيحة الكارهة للفن ولكل ما له علاقة بالحياة، أجدني لا أستغربها وأتساءل: هل لو كان هناك نمط حياة آخر متاح، ربما كان من بينهم الآن فنانين تشكيليين وعازفي كمنجات ولربما كتبت أنا مقالاً آخر في الفن.