الموضوع ببساطة، علّم طفلك.. علّم تلميذك.. إذا اختلف مع غيره "فليحرقه"، وإذا استغاث هذا الشخص تائباً نادماً معبّراً عن ألمه وضعفه، فلا ترحمه أيضاً، ولكن تجاهله واجلس واشكر أصدقاءك وحلفاءك على النجاح في الخطة المحكمة التي وضعتموها للتخلّص من هذا العدو.
ربما يعتبر القارئ هذا الكلام مزاحاً سخيفاً، ولكن الحقيقة أنه واقع أسود وجزء من المعاني التي يتم تدريسها لأبناء المصريين في المناهج الدراسية الحكومية، التي تعتمدها وزارة التربية والتعليم بالبلاد.
التربية على "الحرق"
وفي بلد شهد الكثير من أبنائه عمليات حرق لمتظاهرين في الميادين، وفي سيارة ترحيلات، يتم تدريس مسرحية بعنوان "الطيور المتحدة"، في وحدة دراسية كاملة بكتاب اللغة العربية للصف الثالث الابتدائي.
وتحكي المسرحية، التي قام بتأليفها إسماعيل عبد العاطي، عن العصافير التي تعيش بأمان لولا تلك الصقور القوية التي تطالبها بالتنازل عن أبنائها ليكونوا طعاماً للصقور كي تتركهم بأمان، وحين تحتار العصافير في طريقة لتنقذ أولادها من خطر الصقور ذات المخالب الحادة القوية، تقرر وضع خطة محكمة بالاتحاد مع باقي الطيور من اليمام والهداهد وغيرها، ثم تقنع الصقور بحسن نيتها وموافقتها التنازل عن صغارها، لتستدرج الصقور إلى داخل خيمة، ثم يغلقون باب الخيمة ويشعلون النيران فيها والصقور بداخلها.
وحين تنجح خطة "الطيور المتحدة" في الحرق، يقفون ليشاهدوا تلك النهاية الرائعة للصقور الأشرار المحترقين، وتعلوا أصواتهم بنشيد "بلادي"، متجاهلين أصوات الصقور التي راحت تنادي نادمة من قلب محرقتها: "أنقذونا أنقذونا ولن نعود أبداً".
ماذا يظن المسؤولون عن العملية التعليمية في مصر أنهم مستفيدون من هذه المعاني التي يتم تمريرها وترسيخها في ذهنية ووجدان الأطفال؟.. وهل إذا أجاب التلميذ على سؤال في مضمون الدرس، قائلاً إنه في حال اختلف مع أحدهم حول مفهوم الوطن ومعنى المواطنة، سيقوم بقتله حرقاً داخل خيمة أو داخل ميدان.. هل تكون إجابته صحيحة أم خاطئة؟
وأي فرق بين الواقع والخيال سيخلص إليه التلميذ ـ وهو أحد أهداف الدرس المذكورة مع القصة ـ وهو يعرف أن هناك أناساً يموتون حرقاً في الواقع كما أن الصقور ماتت حرقاً في الخيال.
الدواعش بيننا
في تعليقها على هذه المسرحية، تقول منى يونس، الخبيرة الاجتماعية: الدرس ببساطة حول (التعاون ـ الدفاع عن الوطن ـ التخطيط بحكمة ـ الانتماء)، ولكن بأحقر وأكثر الطرق دناءة ووضاعة، وكأن "الغاية تبرر الوسيلة"، وكأن حرق وإبادة كائنات حية منحها الله نفحة روحية كي تعيش أمر مقبول ولا غضاضة فيه، طالما كان في سبيل الوطن، طالما كان مخالفاً، طالما اشتمّ من نياته وأفعاله شراً وخطراً!! يا للعجب، ونتعجب من داعش؟!
وعبّرت يونس عن غضبها الشديد ممّا آلت إليه حال العملية التربوية في مصر، قائلة: "نحن
بالتأكيد أصابنا الخرف، لماذا نناقض أنفسنا، فنستهجن ونتقزز ممّا فعلته داعش بالطيار الأردني وغيره ممّن حرقتهم، ولا ننتفض ونثور لقيام "متخصصين في التربية" بتربية أبنائنا على قيم الحرق والإبادة"؟
موضحة أن الدولة إذا انقلبت على دورها في رعاية التعليم الصحيح، و"أخذت تبث قيم الانتقام والقسوة والبلطجة على كل مخالف واعتباره غير مستحق للحياة، فلا يجوز لنا إلا أن نتوقع تفريخ طوابير طويلة من "الدواعش" التي لا ترى حلولاً مبتكرة للتعامل مع من يقف أمامها ويخالفها سوى "الحرق".. هنيئاً لنا بالأيام القادمة...!".
ويعلّق الطبيب النفسي د. أحمد عبد الله، مستهجناً: نحن نربي أبناءنا على مجموعة من القيم المشوّهة. إن ما يحدث في المناهج التعليمية المصرية هو استمرار في الاستخدام المجرّم لأجهزة الدولة الأيديولوجية وترويج لسلوكيات الإجرام ومنطق العداوات والعنف. وهو أيضاً تزكية ودعم وتكريس للداعشية من حيث لا نحتسب.
الرقابة الغائبة
ويضيف: إن عقلاء العالم عرفوا منذ وقت طويل أنه لا توجد دولة طيبة تعمل لمصلحة مواطنيها إلا بمراقبة ومحاسبة حادة وصارمة من قبل أفراد المجتمع كلهم، فالدولة إذا تركت دون محاسبة فإنها تعمل لخدمة ومصلحة وأيديولوجية القائمين على السلطة فيها، ومراقبة العملية التعليمية والمناهج الدراسية أمر مهم وخطير، لأن لمثل هذه المسرحية تأثير خطير على الأطفال، فهي تدخل ضمن منظمومة أخرى من التأثيرات المحيطة بالأطفال والتي تهدم جميع
القيم الصحيحة، وتنتج عنها سلوكيات خطيرة.
وينهي عبد الله كلامه قائلاً إن تنظيم الدولة، (داعش)، لا يفرق كثيراً عن أي حكومة مستبدة، فهو منطق الحرب والقتل نفسه، ولكن أحدهم يتكلم باسم الإسلام والآخر يتحدث باسم الوطنية، والتكريس لهذا المنطق من تبرير العنف من خلال بعض السلوكيات والمواقف يمد داعش بالمزيد من الأجيال الجديدة. فالنزاعات تتم تصفيتها ولا يتم التعامل معها بالحرق.
ومن جانبها، تقول أستاذة التربية بجامعة حلوان، إيمان سليم، إن هذه المسرحية مرفوضة، لكن الشكوى لا تأتي بنتيجة دائماً، فأحياناً تتم الاستجابة بالحذف من قبل الوزارة، وأحياناً كثيرة يتم الإبقاء على الوضع كما هو عليه. مشيرة إلى عدم أهلية القائمين على عملية إعداد المناهج الدراسية بالوزارة.
وتؤكد سليم أن تعميق مبدأ المواطنة لدى التلاميذ، لا يكون بغرس العنف، بل لا بد من فهم أساسيات ومبادئ الوطنية الصحيحة.
اقرأ أيضاً:
بالصور.. "اللعب في دماغ" تلاميذ مصر مستمر