في الصباح الباكر، ينقسم أبناء العراقي، فاضل سبهان العلواني، الأربعة إلى فريقين، يبحث أحدهما عن أي أعشاب برية يمكن طبخها، بينما يتولى الفريق الآخر مهمة جمع كل مادة قابلة للاحتراق من أجل إدامة عمل المدفأة التي صارت تمثل عصب الحياة لدى أكثر من مائة ألف نسمة يسكنون مدينة الفلوجة "غرب بغداد" والتي تخضع لحصار بدأ قبل أكثر من ثلاثة أعوام واشتدت وطأته بشكل كبير خلال الشهرين الماضيين.
عادةً ما يرجع أبناء العلواني الساكن في حي نزال "وسط الفلوجة" من جولتهم الصباحية وهم يحملون كمية قليلة جداً من نباتات الخباز والطرطيع والحمك والجنيبرة (نباتات برية تنمو في المساحات الفارغة)، التي يتم تناولها بعد غليها بالماء فيما يفشلون في الحصول على أي حطب للتدفئة، بعد أن قطّع السكان جميع أنواع الأشجار من أجل استعمالها، غير أن العلواني قال لـ"العربي الجديد"، إنهم عثروا وسط تلال القمامة على منجم من الإطارات البلاستيكية والأحذية الجلدية المستعملة والتي تشكل مادة ممتازة لإشعال المدفأة على الرغم من الروائح الكريهة المنبعثة منها.
يبين العلواني أن جميع أعمالهم اليومية من إعداد الطعام وبعض أرغفة الخبز وتسخين المياه والتدفئة تتم باستخدام المدفأة المنزلية محلية الصنع، والتي لا تخلو أي دار في الفلوجة منها وتسمى "ست البيت" وتتكون من خزان معدني مزود ببوابة لإلقاء الحطب والقمامة وأنبوب طويل يمتد خارج المنزل لتفريغ الدخان، مضيفاً أن أفراد العائلة يتناوبون على إدامة إشعال النار من خلال إلقاء أي شيء في المدفأة لمواجهة الطقس البارد الذي تقترب حرارته في أغلب الليالي من درجة التجمد.
اقرأ أيضاً: الفلوجة.. بيوت تحنُ لمهجريها
معاناة في الجولان
في حي الجولان "شمال الفلوجة" دأبت عائلة إبراهيم مجول الجميلي، منذ 34 يوماً على تناول التمر الجاف كطعام وحيد خلال وجبتي الإفطار والغداء بعد إلغاء العشاء وهو حال أغلب العوائل في الفلوجة والتي تعجز عن شراء مادة الحنطة بعد أن بلغ سعر الرديء منها والملوث بريش وفضلات الطيور أكثر من 350 ألف دينار (300 دولار) للكيس من زنة 50 كيلوغراماً، وحتى هذه المادة بدت شحيحية جداً في الأيام الأخيرة، كما يقول الجميلي لـ"العربي الجديد".
الجميلي أوضح، أن محاولته تنويع "وجباتهم التمرية" أفلحت، أخيراً، بعد أن حصل على كمية من حبوب الدخن (مادة تستخدم في الأساس كعلف للطيور في العراق)، والتي خبزوها على المدفأة وحصلوا منها على أرغفة خشنة جداً تسبب تقرحات في الفم فضلاً عن طعمها المر والغريب، لافتاً إلى أن قلة الكمية جعلتهم يخصصون يوماً لخبز الدخن ويومين للتمر.
وتعترف زوجة الجميلي، لمعد التحقيق، أنها منحت أحد الأرغفة الخشنة لأصغر أبنائها ذي السنة ونصف من العمر بعد بكاء مر وتوسلات كثيرة منه وامتناع عن أكل التمر وهو أمر تقول إنه لن يتكرر مستقبلاً لأنه يعني التفرقة والتمييز بين الأبناء، إذ إن لكل منهم حصة ثابتة.
اقرأ أيضاً: الفلوجة.. لا فرق بين جيش المالكي وجرائم إسرائيل بغزة
حديثو الولادة لا يجدون الحليب
حالة الأطفال حديثي الولادة هي الأصعب في الفلوجة ويشكلون النسبة الأكبر بين حالات الوفاة، وذلك لاختفاء الحليب بشكل تام من المدينة، وهو ما يدفع نجاة سعود العيساوي إلى مزج الماء بالسكر أو مطحون أعشاب أو حتى وضع تمرة مهروسة وتقديمها إلى طفلها بواسطة زجاجة الرضاعة.
العيساوي قالت لـ"العربي الجديد"، "أخوض يومياً جولات طويلة من الإقناع والإلهاء مع الطفل الباكي بسبب الجوع، فتارة أعطيه الماء وأخرى أمزجه بالبدائل وأتناوب وأطفالي الكبار على حمله والطواف به حتى ينام فترة قصيرة قبل أن يلسع الجوع أمعاءه من جديد"، بحسب تعبيرها.
ويتعاظم خوف العيساوي من فقدانها ولدها بعد تزايد حالات الوفاة في المدينة والتي يؤكد المعاون الطبي في مستشفى الفلوجة، أحمد العاني، أنها بلغت 17 طفلاً وسبعة من كبار السن بينهم 4 رجال و3 نساء مصابين بأمراض مزمنة وتعذر حصولهم على أي نوع من العلاج لأمراضهم.
المعاون الطبي بين لـ "العربي الجديد"، أن جميع الأطفال ماتوا بسبب الجفاف الشديد وفقدان محلول الإرواء الفموي "دكستورلايت" بينما توزعت حالات كبار السن بين السكري وأمراض القلب والذي لا تتزفر في مستشفاهم حقن الأنسولين الخاصة بمرضى السكري أو علاجات القلب وضغط الدم وغيرها من الأمراض المزمنة.
ولفت العاني إلى أن المتوفر لديهم هو بعض الإسعافات الأولية من قطن وشاش ومحاليل مطهرة فقط ولا يستخدمونها إلا للحالات الحرجة، مثل بتر الأعضاء والإصابات الشديدة الناجمة عن القصف الجوي والمدفعي الذي تتعرض له معظم مناطق المدينة، التي كان عدد سكان المدينة، قد وصل إلى 320.157 نسمة في العام 2011، حسب تقديرات منظمة الأمم المتحدة.
ويؤكد العاني الذي يعد واحداً من بين كادر طبي صغير أصر على المرابطة في مستشفى المدينة المتهالك، أن جميع السكان البالغ عددهم أكثر من 100 ألف نسمة، مصابون بأمراض سوء التغذية وقاسمهم المشترك هو أعراض الشحوب والهزال التي يشترك بها الجميع بدون استثناء.
الحكومة المحلية: نعلم وفاة حالات بسبب الجوع
مع أن خلية الإعلام الحربي، التابعة لوزارة الدفاع العراقية، نفت في بيانها وجود حالات وفاة في المدينة بسبب نقص الغذاء والدواء، إلا أن المتحدث الرسمي باسم الحكومة المحلية في محافظة الأنبارعيد عماش الكربولي، قال لـ"العربي الجديد"، نعلم حصولَ حالات وفاة في الفلوجة بسبب الجوع والمرض، نافياً وجود أي تهويل إعلامي بهذا الخصوص.
المتحدث الرسمي رأى أن الأهالي في الفلوجة يتعرضون لحصار خارجي تفرضه القوات الأمنية وآخر داخلي يقوم به عناصر تنظيم داعش المسيطر على المدينة، مبيناً أن الحل لهذه المأساة، يكون بتوفير الممرات الآمنة لخروج المدنيين، تحت غطاء جوي من التحالف الدولي أو الإسراع بشن عملية عسكرية سريعة ومركزة لتحرير المدينة وتخليص سكانها الأبرياء.
مدير المرصد العراقي لحقوق الإنسان (منظمة غير حكومية)، الناشط الحقوقي، مصطفى سعدون، يؤكد أن المعلومات المتوافرة لديهم تشير إلى وضع إنساني صعب جداً في الفلوجة بعد قيام السكان هناك بتناول النباتات البرية والمواد التالفة بعد منعهم من الخروج من المدينة بواسطة عناصر داعش وقيام القوات الأمنية بفرض حصار تسبب في ضرر كبير للمدنيين.
وحذر الناشط الحقوقي من تكرار تجربة مدينة مضايا السورية المحاصرة في العراق، داعياً الحكومة إلى فتح جسور جوية لنقل المساعدات إلى الأهالي المحاصرين في الفلوجة، مشيراً إلى أن القانون الدولي الإنساني ينص صراحة على أن الحصار لفئة معينة من السكان وتدمير منازلهم وممتلكاتهم بشكل ممنهج ومنع الغذاء عنهم بغية إبادتهم، يعتبر جريمة ضد الإنسانية وتدخل في الاختصاص الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ويعتبر من أخطر الجرائم على المستوى القانوني الدولي.
وبالعودة الى فاضل سبهان العلواني، المنهمك في تقطيع الإطارات تمهيداً لحرقها في المدفأة داخل منزله الخاوي من الطعام، الذي يقول، إنه استقبل فيه أكثر من 22 شخصاً ينتمون إلى خمس عوائل نزحت من بغداد باتجاه الفلوجة مع بداية الغارات الأميركية على العاصمة في مارس/آذار في العام 2003، نجده يقول "مدينتنا ومنذ تأسيسها وهي تخلو تماماً من الفنادق لأننا نعتبر أي زائر، ضيفاً على جميع بيوتنا التي أصبحت خاوية".
-------
اقرأ أيضاً:
بالفيديو.. الفلوجة تتحول إلى مقبرة للنساء والأطفال
عادةً ما يرجع أبناء العلواني الساكن في حي نزال "وسط الفلوجة" من جولتهم الصباحية وهم يحملون كمية قليلة جداً من نباتات الخباز والطرطيع والحمك والجنيبرة (نباتات برية تنمو في المساحات الفارغة)، التي يتم تناولها بعد غليها بالماء فيما يفشلون في الحصول على أي حطب للتدفئة، بعد أن قطّع السكان جميع أنواع الأشجار من أجل استعمالها، غير أن العلواني قال لـ"العربي الجديد"، إنهم عثروا وسط تلال القمامة على منجم من الإطارات البلاستيكية والأحذية الجلدية المستعملة والتي تشكل مادة ممتازة لإشعال المدفأة على الرغم من الروائح الكريهة المنبعثة منها.
يبين العلواني أن جميع أعمالهم اليومية من إعداد الطعام وبعض أرغفة الخبز وتسخين المياه والتدفئة تتم باستخدام المدفأة المنزلية محلية الصنع، والتي لا تخلو أي دار في الفلوجة منها وتسمى "ست البيت" وتتكون من خزان معدني مزود ببوابة لإلقاء الحطب والقمامة وأنبوب طويل يمتد خارج المنزل لتفريغ الدخان، مضيفاً أن أفراد العائلة يتناوبون على إدامة إشعال النار من خلال إلقاء أي شيء في المدفأة لمواجهة الطقس البارد الذي تقترب حرارته في أغلب الليالي من درجة التجمد.
اقرأ أيضاً: الفلوجة.. بيوت تحنُ لمهجريها
البحث عن النباتات البرية لسد الرمق (العربي الجديد) |
معاناة في الجولان
في حي الجولان "شمال الفلوجة" دأبت عائلة إبراهيم مجول الجميلي، منذ 34 يوماً على تناول التمر الجاف كطعام وحيد خلال وجبتي الإفطار والغداء بعد إلغاء العشاء وهو حال أغلب العوائل في الفلوجة والتي تعجز عن شراء مادة الحنطة بعد أن بلغ سعر الرديء منها والملوث بريش وفضلات الطيور أكثر من 350 ألف دينار (300 دولار) للكيس من زنة 50 كيلوغراماً، وحتى هذه المادة بدت شحيحية جداً في الأيام الأخيرة، كما يقول الجميلي لـ"العربي الجديد".
الجميلي أوضح، أن محاولته تنويع "وجباتهم التمرية" أفلحت، أخيراً، بعد أن حصل على كمية من حبوب الدخن (مادة تستخدم في الأساس كعلف للطيور في العراق)، والتي خبزوها على المدفأة وحصلوا منها على أرغفة خشنة جداً تسبب تقرحات في الفم فضلاً عن طعمها المر والغريب، لافتاً إلى أن قلة الكمية جعلتهم يخصصون يوماً لخبز الدخن ويومين للتمر.
وتعترف زوجة الجميلي، لمعد التحقيق، أنها منحت أحد الأرغفة الخشنة لأصغر أبنائها ذي السنة ونصف من العمر بعد بكاء مر وتوسلات كثيرة منه وامتناع عن أكل التمر وهو أمر تقول إنه لن يتكرر مستقبلاً لأنه يعني التفرقة والتمييز بين الأبناء، إذ إن لكل منهم حصة ثابتة.
اقرأ أيضاً: الفلوجة.. لا فرق بين جيش المالكي وجرائم إسرائيل بغزة
حديثو الولادة لا يجدون الحليب
حالة الأطفال حديثي الولادة هي الأصعب في الفلوجة ويشكلون النسبة الأكبر بين حالات الوفاة، وذلك لاختفاء الحليب بشكل تام من المدينة، وهو ما يدفع نجاة سعود العيساوي إلى مزج الماء بالسكر أو مطحون أعشاب أو حتى وضع تمرة مهروسة وتقديمها إلى طفلها بواسطة زجاجة الرضاعة.
العيساوي قالت لـ"العربي الجديد"، "أخوض يومياً جولات طويلة من الإقناع والإلهاء مع الطفل الباكي بسبب الجوع، فتارة أعطيه الماء وأخرى أمزجه بالبدائل وأتناوب وأطفالي الكبار على حمله والطواف به حتى ينام فترة قصيرة قبل أن يلسع الجوع أمعاءه من جديد"، بحسب تعبيرها.
ويتعاظم خوف العيساوي من فقدانها ولدها بعد تزايد حالات الوفاة في المدينة والتي يؤكد المعاون الطبي في مستشفى الفلوجة، أحمد العاني، أنها بلغت 17 طفلاً وسبعة من كبار السن بينهم 4 رجال و3 نساء مصابين بأمراض مزمنة وتعذر حصولهم على أي نوع من العلاج لأمراضهم.
المعاون الطبي بين لـ "العربي الجديد"، أن جميع الأطفال ماتوا بسبب الجفاف الشديد وفقدان محلول الإرواء الفموي "دكستورلايت" بينما توزعت حالات كبار السن بين السكري وأمراض القلب والذي لا تتزفر في مستشفاهم حقن الأنسولين الخاصة بمرضى السكري أو علاجات القلب وضغط الدم وغيرها من الأمراض المزمنة.
ولفت العاني إلى أن المتوفر لديهم هو بعض الإسعافات الأولية من قطن وشاش ومحاليل مطهرة فقط ولا يستخدمونها إلا للحالات الحرجة، مثل بتر الأعضاء والإصابات الشديدة الناجمة عن القصف الجوي والمدفعي الذي تتعرض له معظم مناطق المدينة، التي كان عدد سكان المدينة، قد وصل إلى 320.157 نسمة في العام 2011، حسب تقديرات منظمة الأمم المتحدة.
ويؤكد العاني الذي يعد واحداً من بين كادر طبي صغير أصر على المرابطة في مستشفى المدينة المتهالك، أن جميع السكان البالغ عددهم أكثر من 100 ألف نسمة، مصابون بأمراض سوء التغذية وقاسمهم المشترك هو أعراض الشحوب والهزال التي يشترك بها الجميع بدون استثناء.
الحكومة المحلية: نعلم وفاة حالات بسبب الجوع
مع أن خلية الإعلام الحربي، التابعة لوزارة الدفاع العراقية، نفت في بيانها وجود حالات وفاة في المدينة بسبب نقص الغذاء والدواء، إلا أن المتحدث الرسمي باسم الحكومة المحلية في محافظة الأنبارعيد عماش الكربولي، قال لـ"العربي الجديد"، نعلم حصولَ حالات وفاة في الفلوجة بسبب الجوع والمرض، نافياً وجود أي تهويل إعلامي بهذا الخصوص.
المتحدث الرسمي رأى أن الأهالي في الفلوجة يتعرضون لحصار خارجي تفرضه القوات الأمنية وآخر داخلي يقوم به عناصر تنظيم داعش المسيطر على المدينة، مبيناً أن الحل لهذه المأساة، يكون بتوفير الممرات الآمنة لخروج المدنيين، تحت غطاء جوي من التحالف الدولي أو الإسراع بشن عملية عسكرية سريعة ومركزة لتحرير المدينة وتخليص سكانها الأبرياء.
مدير المرصد العراقي لحقوق الإنسان (منظمة غير حكومية)، الناشط الحقوقي، مصطفى سعدون، يؤكد أن المعلومات المتوافرة لديهم تشير إلى وضع إنساني صعب جداً في الفلوجة بعد قيام السكان هناك بتناول النباتات البرية والمواد التالفة بعد منعهم من الخروج من المدينة بواسطة عناصر داعش وقيام القوات الأمنية بفرض حصار تسبب في ضرر كبير للمدنيين.
وحذر الناشط الحقوقي من تكرار تجربة مدينة مضايا السورية المحاصرة في العراق، داعياً الحكومة إلى فتح جسور جوية لنقل المساعدات إلى الأهالي المحاصرين في الفلوجة، مشيراً إلى أن القانون الدولي الإنساني ينص صراحة على أن الحصار لفئة معينة من السكان وتدمير منازلهم وممتلكاتهم بشكل ممنهج ومنع الغذاء عنهم بغية إبادتهم، يعتبر جريمة ضد الإنسانية وتدخل في الاختصاص الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ويعتبر من أخطر الجرائم على المستوى القانوني الدولي.
وبالعودة الى فاضل سبهان العلواني، المنهمك في تقطيع الإطارات تمهيداً لحرقها في المدفأة داخل منزله الخاوي من الطعام، الذي يقول، إنه استقبل فيه أكثر من 22 شخصاً ينتمون إلى خمس عوائل نزحت من بغداد باتجاه الفلوجة مع بداية الغارات الأميركية على العاصمة في مارس/آذار في العام 2003، نجده يقول "مدينتنا ومنذ تأسيسها وهي تخلو تماماً من الفنادق لأننا نعتبر أي زائر، ضيفاً على جميع بيوتنا التي أصبحت خاوية".
-------
اقرأ أيضاً:
بالفيديو.. الفلوجة تتحول إلى مقبرة للنساء والأطفال