بالأرقام... أسباب الخلل في صناعة العقول العربية

28 مارس 2016
غياب الأطر الحديثة في المدارس العربية (وكالة الأناضول)
+ الخط -
عقب موجات الاستقلال، أواسط القرن الماضي، طرحت معظم الدول العربية مشاريع مختلفة لتأسيس منظوماتها التعليمية الخاصة. وفي ذلك الإطار التاريخي، وجدت تلك الدول المستقلة حديثاً إرثا ثقيلاً من التخلف والأمية، فانصبت جهودها نحو القضاء على الأمية واعتمدت مقاربة تعليمية أساسها الكم لا الكيف. لكن التغييرات الكبرى التي شهدها العالم خلال العقود القليلة الماضية، وطفرة التطور التكنولوجي والعلمي، إضافة إلى تغير الأنماط الاقتصادية وظهور اقتصاد المعرفة، طرح على الحكومات العربية وضع جودة التعليم واستيعاب التكنولوجيا في البرامج التعليمية ضمن أولوياتها. إذ إن أساس التنافس في المنظومة الاقتصادية العالمية الجديدة، القدرة على خلق قوى عاملة مدربة وعلى مستوى عال من التكوين. 
يلخص الباحث اليمني المختص في البيداغوجيا (وهي نظرية تطبيقية للتربية تستمد مفاهيمها من علم النفس وعلم الاجتماع) سليمان الهاجري لـ "العربي الجديد" واقع التعليم في معظم الدول العربية في نقاط أساسية: "تكمن المعضلة الأولى في تدني نوعية التعليم، إذ تتمحور معظم البرامج التعليمية على تلقين التلميذ متأثرة بالماضي أكثر من الحاضر. أما المعضلة الثانية فتتعلق بنمط التعليم العربي الذي يتبع البرامج نفسها، خاصة في التعليم الثانوي والجامعي باعتبار أن التعليم الأساسي موحد ومتشابه إلى حد كبير. فهذا الجمود في تطوير المنظومة التعليمية أفقد الطالب العربي القدرة على الاستجابة للتطور الاجتماعي، والاقتصادي، والتكنولوجي الحاصل في مجتمعه والعالم ككل".
كما يشير الهاجري إلى أن ضعف مستوى عدد كبير من المعلمين يشكل تحدياً بارزاً، إذ إن أصحاب النسب الضعيفة علمياً من حملة الثانوية العامة في اليمن على سبيل المثال، يوجهون نحو كليات التربية وكليات إعداد المعلمين بنسب ناهزت 58% في العام 2014. لافتاً إلى أن هؤلاء هم من نتاج النظام التعليمي السائد القائم على التلقين بدلاً من التفكير والإبداع.
أما السبب الرابع، فيعود بحسب الهاجري إلى غياب البيئة المدرسية الملائمة في العديد من الدول العربية خصوصاً لناحية توفير التجهيزات. يضاف إلى ذلك المركزية الشديدة في الإدارة، مما يؤثر بشكل سلبي على العملية التعليمية، ويحد من حرية المبادرة والتصرف والتفكير في استنباط الحلول للمشكلات القائمة على مستوى الإدارات التعليمية.

ليختم موضحاً أن غياب البنية التحتية الإلكترونية عن مؤسسات التدريس اليمنية يحرم الطلاب من القدرة على اكتساب مهارات الفهم والتعامل مع التكنولوجيا. إذ لا توفر معظم مؤسسات التعليم العالي في اليمن مرافق كافية للحواسيب أو الحصول السهل للإنترنت، بحيث يبلغ المعدل الوطني حاسوباً واحداً لكل 400 طالب.

تطوير المنظمات 

شكل هذا العجز في تطوير المنظومات التعليمية بالسرعة المطلوبة محور دراسة أعدها معهد اليونسكو للإحصاء عام 2014، وتناولت الدراسة قضية دمج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والجاهزية الإلكترونية في المدارس، وكشفت المعاينة الميدانية أن نسبة مؤسسات التعليم الأساسي والثانوي التي يتوفر فيها نوع من الربط بالإنترنت لا تتجاوز 50% من مجمل المؤسسات التعليمية في فلسطين ومصر.
أما بشأن توفير الحواسيب في المدارس والمعاهد والكليات، فلا تزال النسب متواضعة، رغم كم الخطط الحكومية في أغلب الدول العربية لتجهيز مؤسساتها التعليمية بالأجهزة الحواسيب الآلية.
يفسر الخبير البيداغوجي عبد العزيز بن خليفة سبب تباطؤ جهود تطوير النظم التعليمية في العالم العربي، مشيراً إلى أن غياب استراتيجيات واضحة لتطوير التعليم من أهم الأسباب لتعطيل جهود إصلاح البرامج التعليمية. كما تلعب الأوضاع الاقتصادية المتأزمة في معظم الدول العربي دوراً أساسياً في الحد من قدرة الدولة على توفير الموازنات الضرورية لتجهيز المؤسسات التعليمية بما يلزم من معدات. إضافة إلى نقص الكادرات العلمية القادرة على استيعاب التكنولوجيا الحديثة ونقلها للطلاب.
أما العامل الثاني الذي يؤثر في نسق تطوير المؤسسات التعليمية فيكمن في عدم تحمس الحكومات العربية لإحداث نقلة حقيقية على المستوى التكنولوجي داخل المدارس والجامعات. حيث لا تتجاوز مخصصات البحث والتطوير العلمي في تونس على سبيل المثال 1% من موازنة الدولة.

ويقول عبد العزيز: "في تونس، بقيت السياسة التعليمية منصبة على الكم، رغم محاولات المؤسسات والبرامج التعليمية للاستجابة لمتغيرات الأنماط الاقتصادية. لكن المعضلة التي تعيق السير قدماً نحو دمج حقيقي للتكنولوجيا الحديثة في التعليم تتعلق بتخلف الإدارة وسياسة الارتجال والاكتفاء بخطوات خجولة وصورية دون الإقدام على وضع استراتيجية إصلاح جذري للمنظومة التعليمية التونسية، التي ساهمت في نهاية المطاف بتخريج أكثر من 300 ألف عاطل عن العمل، إضافة إلى مئات الآلاف من العملة والموظفين ذوي الكفاءة المتدنية.
يشرح الباحث الاقتصادي عماد بن سليمان العلاقة بين عصرنة التعليم والتنمية الاقتصادية، فيقول: "إن التقدم الصناعي السريع في الصناعات الإلكترونية والحاسبات والاتصالات، غير بنية الصناعة العالمية والعلاقات الاقتصادية والمنافسة بين الأمم. كما تحول قطاع الخدمات إلى قاطرة الاقتصادات في دول على غرار الولايات المتحدة الأميركية. حيث تساهم صناعة المعلومات والخدمات بنسبة 50% من ناتجها المحلي الخام. هذا التطور أفرز ما يعرف باقتصاد المعرفة، الذي يمكن تعريفه بأنه نظام اقتصادي يمثل فيه العلم الكيفي والنوعي عنصر الإنتاج الأساسي والقوة الدافعة الرئيسية لتكوين الثروة".

ويضيف سليمان: "فرضت التغيرات الاقتصادية تغيير الوظيفة التقليدية للمؤسسة التعليمية، خصوصاً في الدول العربية التي ما تزال تعاني من تبعات التعليم النمطي والتقليدي. إذ تتطلب الأسواق الجديدة وقواعد المنافسة الاقتصادية الراهنة تغيير تكوين العنصر البشري ليتمكن من التعامل مع القفزة التكنولوجية الهائلة التي تمثل أساس النمط الاقتصادي الجديد".
كما يشير إلى أن الإنفاق على التعليم بشكل علمي وبما يتلاءم والتصور المستقبلي لطبيعة هذا الاستثمار تحول إلى ضرورة ملحة في ظل تحول المجتمعات نحو المعرفة والتي أفرزت وظائف وأعمالاً جديدة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتي تحتاج إلى مورد بشري يتمتع بتعليم ومهارات عالية. وبتعلم وتدريب مستمر لمواكبة التطور السريع في سوق العمل المعرفي.

غياب السياسات 

وبحسب محدثنا، فإن الدول العربية تفتقر لوجود سياسات واستراتيجيات في مجال الاتصال وتبادل المعلومات، بسبب غياب المؤسسات الوطنية المسؤولة عن التقنيات الحديثة في هذا المجال، وعدم الاهتمام الكافي لبعض الدول العربية بإنشاء التقنيات وتطويرها نظراً لوجود أولويات تنموية أخرى.
وقد خاضت الدول العربية تجارب خجولة عبر زيادة نسبة الإنفاق على تطوير وتحديث التعليم من الناتج المحلي خلال العشرية الأخيرة، من رياض الأطفال مروراً بالابتدائية والثانوية والمراحل الجامعية الأولية والعليا. ويصل معدل الزيادة في تونس إلى 6.9% تليها كل من السعودية والمغرب بنسبة 5.6%.
يختم سليمان:" إن قدرة الكفاءات العربية على الخلق والتطوير والنهوض باقتصادات بلدانها بقيت محدودة للغاية، إذ ما يزال عدد براءات الاختراع في الدول العربية مجتمعة لا يمثل 0.5% من مثيلاتها في الولايات المتحدة الأميركية أو اليابان".

اقرأ أيضاً:رب الأسرة طفل لا يزال على مقاعد الدراسة
المساهمون