باص أوتروايك: كي لا تبقى الوجوه غامضةً

30 يوليو 2020
وجوه الفيّوم إحدى المشاريع المهمّة التي عمل عليها المصوّر (Getty)
+ الخط -

في كتابها الرائد "عن الفوتوغراف"، تشير سوزان سونتاغ إلى أن الفوتوغرافيا واجهت حرباً شرسة حال ظهورها في النصف الأول من القرن الثامن عشر، وتحديداً عام 1839، وصار واضحاً ضعف حجة المدافعين عن الفوتوغرافيا باعتبارها فناً، حتى بعدما قالت الفوتوغرافية الإنكليزية الرائدة، جوليا مارغريت كاميرون، إن الفوتوغراف "مؤهل لأن يكون فناً، لأنه يسعى مثل الرسم والتصوير الزيتي إلى الجمال"، إلى أن جاء مواطنها هنري بيتش روبنسون ليقول جملته الأهم: "الفوتوغراف فن لأن بإمكانه أن يكذب".
من هنا، يمكننا الدخول إلى مغامرة المصور الهولندي باص أوتروايك (52 عاماً)، الذي انتشرت له أخيراً العديد من المحاولات الفنية اللافتة على مواقع السوشيال ميديا، يقدم من خلالها صوراً فوتوغرافية لوجوه الشخصيات الأشهر في تاريخنا القديم والمعاصر، فكلنا نعرف نابليون بونابرت من اللوحات التي رسمها له الفنانون وكتب التاريخ، لكنه لم يلحق بفن الفوتوغرافيا ليسجل لنا وجهه.
كما أننا نعرف ملامح الرسام الهولندي الشهير فنسنت فان غوخ من البورتريهات الذاتية التي رسمها لنفسه، لكننا نكاد نعدم وجوده في صور فوتوغرافية، التي لطالما كرهها واعتبرها بذاءة تهين فن الرسم والتصوير. هنا، تأتي تجربة الفنان الهولندي لتقدم لنا إجابة مثيرة عن السؤال: كيف كانت الملامح الحقيقية لهذه الشخصيات التاريخية، بدءاً من يسوع المسيح وحتى الموناليزا، مروراً بالعديد من الأسماء والأعمال الفنية الخالدة؟


فن الكذب
يقوم الفنان الهولندي باص أوتروايك اليوم بتحويل التماثيل والشخصيات التاريخية الأقدم إلى صور فوتوغرافية ناطقة بالحياة، مستخدماً تقنيات الذكاء الاصطناعي، في خطوة عكسية لما فعلته الفوتوغرافيا حين ظهرت، فحولت أعمال التصوير الزيتي إلى صور مطبوعة بالأبيض والأسود، ليجعلنا نشاهد الوجوه الحقيقية لنابليون بونابرت والمسيح، كما لا يتردد في تحويل التماثيل إلى أناس من لحم ودم، فيعمل على تمثال ديفيد لمايكل أنجلو، أو المرأة التي خلدها تمثال الحرية، ليقدمهما لنا من جديد في صور تكاد تكون حقيقية، كأنها التقطت بكاميرا عادية.
صحيح أن المصور الهولندي يعمل منذ 14 عاماً في مجال التصوير الفوتوغرافي، وخبير بتقنيات معالجة الصور السينمائية والتلفزيونية، ومتخصص في تصميم الصور ذات الأبعاد الثلاثية وبرامج وألعاب الكمبيوتر، إلا أن اكتشافه لبرنامج جديد اسمه Artbreeder، مكنه من توظيف قدرات البرنامج المذهلة لإعادة شخصيات بارزة إلى الحياة.
يستخدم البرنامج الثوري أحد أشكال الذكاء الاصطناعي يعرف بتكنولوجيا "GAN"، التي تجمع بين شبكتين عصبيتين لإنشاء صور أو أصوات حقيقية، وهي نفسها التكنولوجيا التي تستخدم في إنشاء مقاطع الفيديو أو التسريبات الصوتية المزيفة، لكن برنامج Artbreeder يستخدم هذه التكنولوجيا الذكية لإنشاء صور نابضة بالحياة لأشخاص ربما لم يكن لهم وجود حقيقي على الإطلاق، عبر تغذية "GAN" بآلاف الصور لبشر حقيقيين، فتصبح لدى البرنامج القدرة على معرفة أبعاد ملامح الوجوه البشرية، وحين يتم تزويده لاحقاً بالعديد من صور تمثال ديفيد على سبيل المثال، يستطيع الذكاء الاصطناعي الذي يستخدمه البرنامج تقديم تصور فوتوغرافي قريب الشبه بملامح التمثال.

سينما ودراما
التحديثات الحية

ملامح الوجه
أتاح الفنان الهولندي على صفحته الشخصية على إنستغرام أعماله اللافتة لجمهور عريض، حيث نجد صوره الأيقونية لنابليون بونابرت وجورج واشنطن والملكة إليزابيث وفرنكشتاين، وحتى لشخصيات تاريخية مثل ميكافيلي، صاحب مبدأ الغاية تبرر الوسيلة. وفي هذه الأعمال جميعها، يركز باص أوتروايك على إعادة ملامح الوجوه إلى شكلها الحقيقي، تاركاً حواف الصور محتفظة باللمسات الزيتية، كما في معالجته لوجه الموناليزا، حيث يبدو الوجه حياً وحقيقياً، فيما ظلت ثيابها مرسومة، لا يزال بها أثر من ريشة ليوناردو دافينشي.
يقوم عمل باص أوتروايك على تزويد برنامج Artbreeder بعشرات الصور، الملتقطة من جميع الزوايا للشخصية المراد تقريب ملامحها في ما يشبه الصورة الفوتوغرافية. عن هذه التقنية، يقول الفنان: "كلما كان لديك المزيد من الصور لموضوعك، كان ذلك أفضل، فحين اشتغلت على التقاط مئات الصور لتمثال الحرية، كان علي أن أصوره من جميع زواياه في النهار والليل، وباستخدام العديد من تقنيات التصوير والعدسات المقربة وغيرها، حصلت على متوسط لأبعاد ملامح الوجه، هذا الاكتشاف أوصلني إلى نسخة شبه حقيقية لتمثال الحرية، والأمر نفسه حدث مع تمثال ديفيد لمايكل أنجلو".

السيد المسيح
تضم مجموعة باص أوتروايك اليوم عشرات الشخصيات التاريخية، إلا أن الصورة الأهم التي حظيت بإعجاب الآلاف على مواقع السوشال ميديا كانت للسيد المسيح، التي يبدو أن الفنان لم يكتف فيها فقط بالتصورات المسيحية لشكل المسيح، بل استعان أيضاً بالمصادر التاريخية، ليخرجه لنا حياً أكثر مما قدمه لنا التصوير الزيتي أو تماثيل عصر النهضة. كأن المصور لا يقدم لنا الملامح فقط بعيداً عن حضور الشخص في المخيلة الجمعية، حتى خرجت صورة السيد المسيح أمامنا كأنها أحد وجوه الفيوم الشهيرة، وهي المجموعة التي عمل عليها الفنان الهولندي أيضاً، ليخرج وجوهها الساحرة من فضاء التصوير الزيتي إلى الفوتوغرافيا، فنرى العيون الواسعة العميقة تتوسط وجوهاً شرقية سمراء، في صور لا تلغي روح التقاليد اليهودية والمسيحية والإسلامية والبيزنطية والعربية من مخيلاتنا ونحن نشاهدها، بل تؤكدها وتعزز من وجودها.

"الفوتوغراف فن لأن بإمكانه أن يكذب"، قالها روبنسون منذ عقود، ليأتي اليوم تلميذه أوتروايك، فيؤكد الأمر ذاته: "الفن بشكل عام مصدر غير موثوق به، فقد رسم فان غوخ نفسه بصورة مغايرة لما كان عليه في الحقيقة، فبالغ في إبراز نتوء وجنتيه في بورتريهاته الذاتية، لكن صورته التي توصلت إليها كانت أرق كثيراً من ملامح وجهه التي سجلها في لوحاته". يضيف المصوّر: "كذلك كانت الموناليزا حالة صعبة، لأن وجهها غير صحيح تشريحياً، لذلك التقطت مئات الصور للوحة ليتمكن البرنامج من تشكيل أبعاد وجهها بالكامل، ولكي أحصل على نتيجة مقبولة، يكون عليّ دائما أن أوازن بين تحقيق وجه واقعي مع الاحتفاظ بتعبيرات الوجه في العمل الأصلي".
وفي محاولة منه لشرح الهدف من أعماله بعدما قدم منها نحو 60 صورة لشخصيات تاريخية مهمة، يقول باص أوتروايك: "أحاول تقديم صور ذات مصداقية فنية، أكثر من كونها أعمالاً تتمتع بالدقة العلمية أو التاريخية".
يستخدم برنامج "Artbreeder" الذكاء الاصطناعي والشبكات العصبية لإنشاء صور شبه واقعية، استناداً إلى مدخلاته من الصور والمعلومات، جنباً إلى جنب مع ما يخزنه الذكاء الاصطناعي عن كيفية ظهور الوجوه وتأثير الضوء في التصوير الفوتوغرافي، لكن باص أوتروايك لا يزال يتدخل في معالجة صوره النهائية باستخدام برامج وتقنيات أخرى. يقول: "أحاول قدر الإمكان أن أفعل كل شيء يدوياً في البداية، ثم أدع الذكاء الاصطناعي يقوم بالباقي، لكن في بعض الأحيان أحتاج إلى الاستعانة ببرنامج الفوتوشوب، لأن تكنولوجيا GAN لا تقوم بتحويل الملابس أو قصات الشعر إلى حقيقة". 

المساهمون