بابلو غارسيا بايينا.. الفتى القديم يغادر قرطبة

18 يناير 2018
(بابلو غارسيا بايينا)
+ الخط -

عن عمر قارب المئة عام، رحل الشاعر الإسباني بابلو غارسيا بايينا (1921 - 2018)، الأحد الماضي في قرطبة مسقط رأسه.

ارتبط اسم بايينا (Pablo García Baena) بجماعة شعرية أساسية في تاريخ الأدب الإسباني ظهرت بعد الحرب الأهلية هي "جماعة كانتيكو"، التي تحلّقت حول مجلة تحمل نفس الاسم. وكان الشاعر القرطبي قد أسسها وأدارها رفقة الشاعرين ريكاردو مولينا وخوان بيرنييه، ومع كتّاب آخرين مثل خوليو أوْمِينْتِي وماريو لوبيث، وفنانَيْن هما ميغيل دي مُورَالْ وخِينِيسْ لْيِيبَانَا.

أما على مستوى التجربة الشعرية الشخصية، فقد عرف بايينا مرحلتين؛ مرحلة النضج الأولى التي ارتبطت بدواوينه: "همس خفي" (1946)، و"بينما تشدو الطيور" (1948)، و"الفتى القديم" (1950)، والتي تميَّزت بشعرية المكاشفة النوستالجية عبر صوت رومانسي مهيمن حزين ومأساوي، بل ورثائي أحياناً، يرتبط بالطفولة والفتوة باعتبارهما حالتين بقدر ما تجسدان ما هو حسّي، تهتمان أيضاً بتفاصيل الجمالي في القصيدة وبزخرفها اللفظي، يقول الشاعر في قصيدته المعنونة بـ"أفول":

وحجبتِ الغيومُ الزرقاءُ وجهك...

خَوَابٍ متلاشيةٌ
في بستانٍ نيوكلاسيكيٍّ
الزَّخارفُ تداعبُ
تماثيلَ مبتورةَ الأطراف.
أنصافُ آلهةٍ بحريةٍ متوَّجَةٌ
بِزبَدِ النُّجومِ
في الخُضْرة السَّاكنةِ
لبركَةٍ بلا ماء.

وحجبتِ الغيومُ الزرقاءُ وجهك...

حواليك
نظرةٌ بلا إبصارٍ
للمَرمرِ المكسور.

أما المرحلة الثانية فمن أبرز دواوينها: "حزيران" (1957) و"زيتيات" (1958)، و"بيع بالمزاد" (1971)، و"قبل أن يتلاشى الزمن" (1978)، وبعد سنوات أصدر "أكاليلُ الزهر الوفيَّة الهاربة" (1990)، وقد احتفت قصائده الشعرية بالحياة وباكتمال المتعة فيها من خلال العشق والوله والتجاوب مع الزمن باعتباره لحظة هاربة يصعب القبض عليها. لقد مثّلت هذه التجربة عنده قمة الهوى الصوفي المتأجج، لكن صوفيته دنيوية فهو أقرب إلى الوثني إن لم نقل الهرطقي.

لم يجد الاتجاه الشعري الذي مثلته تجربة بابلو غارسيا بايينا بمرحلتيها، في البداية، صدى عميقاً في الشعر الإسباني الموزّع بين توجّهين أساسيّين متصارعَين: الكلاسيكي الرسمي، والاجتماعي الذي فرض نفسه بقوة كاسحة على الشعرية الإسبانية، ولن يعرف الشاعر التنويه والاحتفاء المستحقين إلا مع الجيل السبعيني، ممثلاً في شاعرين درسا تجربته، هما غييرمو كارنيرو وأنطونيو لويس دي بيينا فأعادا لتجربته الاعتبار، خصوصاً في عمقها الجمالي والثقافي المنفتح، والمحاور لتجارب عالمية أخرى، وخصوصاً إنصاته لجيل 27 في إحدى أعمق تجاربه، تجربة لويس ثيرنودا، بل أنصت أيضاً للشعراء والكتّاب الأندلسيين العرب، وخصوصاً لصاحب "طوق الحمامة" ابن حزم الأندلسي.

يقول بايينا في قصيدته المعنونة بـ"ياقوت إسبانيا" التي أهداها للكاتب القرطبي:

لو قال الإله: عد، فإلى أين سترجع؟
الموت لا يتذكر. قد نمَت شجرة البلوط الشبحية
للخريف عالية جداً وأنت بالكاد تعرفُ
أنك كنت الراية التي أُنْزِلتْ في صمت.

مثلما يعود الملك الأعمى من المنفى
أمام ازدراء الرعية، هل تعبرُ قوس
الضوء والظلام... على غير هدىً، تتحسَّسُ
منذهِلاً، بيديكَ كلسَ الذكرى.

غيرُ قابلٍ للتحويل يومُك ومصيرُك.
أن تعودَ إلى آثار أقدام مرسومة على الرمال
وتضبط خطوتك على ذلك الأثر القديم
قد كان غير مُجدٍ عملك، مثل المياه التي تعود.

أجل، السماء والسروة والعود والنخلة،
احتضارُ الماغنوليا، حشرجة الحب
مثل مقرعة الباب تدقُّ بعناد طوال الليل،
وستواصلُ رفع الأنقاض نحو القمر.

لكن الوقت هو بالكادِ نهبٌ يَسحبُ
قتامة النهر من الحمرة المتموِّجة.
في ضفتك البعيدة، الماضي والآتي
ثعبانان يشبكان خاتمين متلألئين.

أن تصل مجدّداً، أيا حاج الضبابِ التائه
قد اختطف منه الوطن، والجسد، والعطش.
مع النظرة الباردة للآلهة والتماثيل
سوف ترى طقطقة نار الإنسان الدموية.

كل هذا كان لك. غريباً عن السياجات
مُكَمَّداً بالنسيان، لا مُبالياً بالفرح
أو بالمعركة، تضطجِعُ، نبتٌ مُنعزلٌ
يُغذِّي يرقة وليلة أرض مُعتمة.

وإذَنْ، فالزمنُ متلهف لبناء الأيام
مثل أبراج ذهبية يُزَيِّنُها العريفُ بالحليّ
قد عبرَ الغابَ مع حفيفِ أوراقٍ
وهو اليوم مجرد إكليل جنازيٍّ على جبينك.

آدمُ مُسهَدٌ، من غبارِ فردوسِ عدنٍ من ظِلالٍ،
تفاحةُ الآن، وغداً، وحينئذ،
عجلة ما بين يديك وحتى مفتاح القوس،
الذي أبوابه أبداً لن تغلقها الرأفة.

رغم العنفوان الشعري، لازمت بايينا فترات صمت، أحياناً كانت تطول حدَّ أنها تغدو أشبه بصحراء قاحلة. لكن التجديديّين، وخصوصاً كارنيرو ودي بيينا، قد أعادوه بقوة إلى الحياة، وإلى المشهد الشعري، ومنذ ذلك الحين نشر العديد من الدواوين الجديدة، كما نال العديد من التكريمات والجوائز أبرزها "جائزة أمير أستورياس" (1984)، و"جائزة الملكة صوفيا للشعر الإيبيروأميركي" (2008)، و"جائزة فيديريكو غارسيا لوركا العالمية للشعر" (2012)، كما تم تمييزه بلقب "الابن المختار لأندلوسيا"، وتم اختياره هذه السنة من طرف "المركز الأندلسي للآداب"، شاعر 2018، سنة شهدت بداياتُها رحيله الأخير.

دلالات
المساهمون