بابلو ترابيرو: "الأشياء المعقّدة تجعل الفيلم مشوّقًا"

28 سبتمبر 2018
بابلو ترابيرو: أمنح جمهوري تجارب جديدة (العربي الجديد)
+ الخط -

قدّم المخرج الأرجنتيني بابلو ترابيرو (1971) أحدث أفلامه "لا كيتود" في الدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (لا موسترا)"، خارج المسابقة الرسمية: تعود الشقيقتان ميا (مارتينا غوزمان) وأوجينيا (بيرينيس بيجو) إلى المنزل العائلي في ضاحية بوينس آيريس، بعد أعوام من الانقطاع، إثر انتكاسة صحّية يتعرّض لها والدهما. سيكون اللقاء مناسبة لتعويض ما مضى، وللمصارحة.

من خلال حكاية أسرية تغلب عليها الحميمية والمشاعر الرقيقة، يؤكّد المخرج الأربعيني، الفائز بجوائز مختلفة، أنه قادر على الإمساك بأنواع سينمائية مختلفة ومفاجئة لمَن سبق أن شاهد له "العشيرة" (2015) و"فيل أبيض" (2012) و"ليونيرا" (2008)، والعودة إلى نصّ شخصي يتيح له العبور إلى ماضي الأرجنتين والأشباح التي تطاردها.

(*) سمعتك تقول إن فيلمك "لا كيتود" جاء كخطوة بديهية بعد "العشيرة". هل لك أن تشرح كيف حدث ذلك؟
ـ عندما بدأتُ العمل على "لا كيتود"، لم أقل في سرّي: لنبدأ الآن فيلمًا عن شقيقتين، مع التركيز على العناصر المشتركة مع "العشيرة". يصعب تحديد أين تبدأ عملية كهذه، وأين تنتهي. الكتابة السينمائية كانت دائمًا بالنسبة إليَّ تلقينًا. أتعلّم منها أشياء كثيرة تدفعني إلى الأمام. كلّما غصتُ في مراحل إنجاز الفيلم، كتابةً وتصويرًا ومونتاجًا، أكتشف المزيد. 


بالعودة إلى تعليقك، يمكنني القول إني وددتُ إنجاز فيلم عن عالم المرأة. هذا قبل أي شيء آخر. طبعًا، لكوني رجلاً، هذا يجعل التحدّي أكبر. لكن، لأكون صريحًا معك، لستُ مرتبطًا بأبطال أفلامي الأخرى. بإمكاني أن أضع لك قائمة بالأشياء كلّها التي تجعلني أختلف عن الشخصيات التي صوّرتها. مع ذلك، التحدّي كامنٌ في أن أتماهى مع شقيقتين كي أصوّر بورتريهًا يتّسم بالحميمية، وهو تحدّ صعب جدًا. هذا ما حمّسني. أضف إلى ذلك، أني كنتُ متلهفًا إلى التعاون مع الممثلتين بيرينيس بيجو ومارتينا غوزمان. التقيتُ بيرينيس المرة الأولى في مهرجان "كانّ"، عندما كانت تشارك فيه مع "الفنّان" (2011) لزوجها ميشال أزانافيسيوس. كنتُ يومها في لجنة التحكيم مع مارتينا. فوجئتُ كم أن إحداهما تشبه الأخرى. الغريب أن لديهما شقيقتين لا تشبهانهما إطلاقًا (ضحك).

(*) العلاقة بين الشقيقتين حميمية جدًا، ومستفزّة بعض الشيء. كيف خطرت في بالك هذه الحكاية؟
ـ كما نرى في الفيلم، فإنّ في العلاقة التي تربط الشقيقتين، إحداهما بالأخرى، شيئًا من التكافل. هو ارتباط بين نوعين مختلفين من الكائنات. لكن، في لحظة يمكن الاعتقاد أنهما وجهان لشخصية واحدة. هاتان الشقيقتان ناجيتان. نعرف الخلفية التي تأتيان منها، وبسرعة نستوعب فكرة أنهما تنويان الابتعاد عن هذا الماضي. أتيحت للمُشاهد فرصة اختبار هذا النوع من القُرب من الشخصيات. مثلاً: خلال تناول الفطور أو العشاء، أو حتى عندما تكونان في سريرهما، هناك دائمًا ما يدفع المُشاهد إلى تخيّل أنه يجلس معهما. هناك دائمًا كرسي أو سرير شاغر. هذه طريقتي لإشراك المتلقّي في المشهد.

(*) لكن، لمَ العلاقة على هذا القدر من التعقيد بينهما. لمَ لا تكون الأمور أبسط؟
ـ إذا لم تكن الأشياء معقّدة، فلن يكون الفيلم مشوّقًا (ضحك). هذا هو جوابي الأقصر عن سؤالك. في الحقيقة، الفيلم يتلوّن كثيراً وتتبدّل أنماطه، أحياناً تراه ميلودراما، وأحياناً يصبح "ثريلر"، كما أنه يتأرجح بين السوريالية والعبثية. لا يُمكن حصره في نوع سينمائي واحد. لكن، قبل هذه الأمزجة كلّها، أعتقد أننا أمام فيلم ذي نبرة تراجيدية. التراجيديا هذه تأتي من تاريخنا في الأرجنتين. أحبّ الدراما، والدراما تحتاج إلى صراع.

هناك أمر آخر يجب الانتباه اليه: الشقيقتان متحدّرتان من عائلة تقليدية محافظة إلى حدّ ما، لكن سلوكهما لا يشي بأنهما من هذه البيئة. هذه الصراعات الداخلية كلّها تمدّ الفتاتين بعناصر لمواجهة الواقع.

(*) ما هو الماضي بالنسبة إليك؟
ـ الماضي في أفلامي كلّها هو الحاضر. هذا الحاضر لا يأتي هكذا. إنه خلاصة عمل دؤوب تتوّلاه الشخصيات. حجرة حجرة يُصنع هذا الحاضر، وأحيانًا من حُطام الماضي. لعل وظيفتي كمخرج هي أن أجد صلة وصل بين الشخصيات وماضيها.

(*) هل يُمكن مقاربة الفيلم كـ"تلنوفيلا" (مسلسلات أميركا اللاتينية)؟ أتعي ذلك الرابط؟
ـ لا أشاهد هذه المسلسلات البتّة، لكني في المقابل مُطّلع بشكل جيد على الميلودراما التي تُعتَبر منبع الـ"تلنوفيلا". الميلودراما تعني صراعات عميقة، وهي ذات طابع عائلي في معظم الأحيان. إلّا أن لويس بونويل هو إحدى مرجعياتي في هذا الفيلم، التي كنت أتحدث عنها دائمًا مع الممثّلين وفريق العمل. أخذتُ من بونويل موضوعة محدّدة: عدم قدرة الشخصيات على الفرار من المكان؛ كما في "الملاك المدمّر" (بونويل، 1962)، حيث الشخصيات غير قادرة حتى على فتح باب المنزل والخروج منه، فتبقى تاليًا في مواجهة واقعها. في النهاية، هذه حالنا جميعًا. كلّ فرد منّا يتعامل معها على طريقته.

لكن السينما نسخة متطرّفة للواقع. تأثيرٌ آخر كان مهمًا عندي: ما نطلق عليه في الأرجنتين "العصر الذهبي للسينما" في خمسينيات القرن الـ20، عندما كنّا ننجز أفلامًا للدول الناطقة باللغة الإسبانية مع كبار النجوم، وكان سينمائيون أجانب يأتون إلى بلادنا للتصوير. إسبان ومكسيكيون وغيرهم. لا أخفي أيضًا أن هناك تأثير الأفلام التي كنتُ أشاهدها على التلفاز عندما كنتُ طفلاً.

(*) هل تجد أن هناك استمرارية ما من فيلم إلى آخر؟
ـ بصراحة، لا أشاهد أفلامي مُجدّدًا. أحيانًا، أشاهد لقطة من فيلم عندما أكون في مهرجان. لكني لا أعي "حقيقة" أفلامي ككلّ. مضى أكثر من 18 عامًا على فيلمي الأول. لم أشاهد "العشيرة" منذ عرضه في الصالات. لا أحتاج إلى العودة إلى أفلامي السابقة للتمكّن من كتابة سيناريو جديد. دائمًا أتطلع إلى العمل التالي. أنا مشغولٌ بما سيأتي أكثر من انشغالي بما مضى. ببساطة، لا خريطة لديّ.

(*) ما علاقتك بالأماكن التي صوّرتَ فيها؟
ـ هذه الأماكن كلّها التي تراها في الفيلم مرتبطة بطريقة أو بأخرى بماضينا الأسود في الأرجنتين. هنا، قد نطرح السؤال الآتي: كيف استطاع هؤلاء الأثرياء أن يجمعوا ثرواتهم؟ أؤكد لك أنه ليس دائمًا بالطرق النزيهة. للأسف، جنوب الأرجنتين مكان بعيد، لا يسهل فهمه. لكن، يجب أن تعلم أن المَزارع كانت دائمًا مصدر دخل مهمًا لنا. كانت أساسية لاقتصادنا. باكرًا، سألتُ نفسي: مَن هم أصحاب هذه الأراضي؟ هناك علامة استفهام كبيرة حول هذا الموضوع في الأرجنتين. إنه من مخلّفات الاستعمار الإسباني. الجميع يسألون لماذا الشخص الفلاني صاحب الأرض، في حين أن الجميع يعلمون أنه لا يملكها. المنزل الذي صوّرته في الفيلم كان مهمًا جدًا بهذا المعنى، لأنه يعكس شيئاً أكبر وأعمق من لون الجدران.

(*) بعد المشاركة في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا ونيل جائزة أفضل مخرج (أسد فضّة) عن "العشيرة": أليست لديك مشكلة في المشاركة خارجها؟
ـ لو لم تعجبني المشاركة خارج المسابقة لما وافقتُ. كان عرض الفيلم من نوع الـ"غالا". بعد العرض، أمضينا ليلة رائعة في جزيرة "الليدو". صدقًا، نعلم جميعنا كيف يتم اختيار أفلام المسابقة في المهرجانات. لماذا الفيلم الفلاني في المسابقة وفيلم آخر خارجها؟ لا أحد يستطيع الردّ على هذا السؤال. كنتُ محظوظًا أني فزتُ بجائزة هنا. لا يهمّني أين يُعرض فيلمي طالما أنه يُعرض، لأني أعرف الكواليس وأفهم كيف تُدار اللعبة. أيضًا لأنه تربطني علاقة وجدانية بهذا المهرجان الذي انتقى فيلمي الأول عام 1999 ونلتُ عنه جائزتين. كانت هذه لحظة مهمّة في حياتي.

"لا كيتود" هو فيلمي الخامس في فينيسيا. ثمّ إنّ المشاركة في المسابقة تتطلّب أحيانًا مزيدًا من الطاقة. لذلك، أنا هنا مع فريقي أستمتع فحسب.

(*) كيف تمّ تلقي الفيلم في الأرجنتين؟
ـ خرج قبل فترة قصيرة، وانتقل بين المراكز الثلاثة الأولى في شبّاك التذاكر المحلي. أدرك تمامًا أنه قد يفاجئ الجمهور الذي شاهد بعض أفلامي السابقة، كـ"فيل أبيض". أشعر بأني محظوظ أنّ هناك مَن يترقّب أفلامي. نعرف جيدًا كم يكون الأمر مُعقّدًا وصعبًا بالنسبة إلى سينمائيين آخرين. دائمًا أحاول أن أمنح جمهوري تجارب جديدة تختلف شكلاً ومضمونًا عن تلك السابقة. أشعر بسعادة ورضى. فرحتُ أيضًا أن الناس ضحكوا خلال مشاهدة الفيلم هنا في فينيسيا، رغم أنّ الترجمة قد تكون عائقًا أمام فهم بعض الطرائف لمَن لا يُتقن اللغة الإسبانية. كان أكثر أمانًا أن أبقى ضمن عالمي السينمائي، لكن السينمائيين الذين أحبّهم يحاولون دائمًا أشياء جديدة، وأنا أمشي على خطاهم.
المساهمون