13 فبراير 2022
انقلاب ناعم في الجزائر
تراجع الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، عن خوض الانتخابات الرئاسية التي كانت مقرّرة منتصف الشهر المقبل، وذلك بفعل الضغوط الشعبية الهائلة التي رفضت ترشّحه لعهدة خامسة. ومنذ أعلن سحب ترشحه، برزت قراءتان لتفسير هذا التراجع. ترى الأولى أن الرجل، ومن معه وحوله، قد اقتنعوا بضرورة الاستجابة لصوت الجماهير، وأنه آن الأوان لإطلاق عملية إصلاح سياسي حقيقي، يُفضي إلى تأسيس جمهورية ديمقراطية، من خلال تعديل الدستور، وإجراء انتخاباتٍ حرة ونزيهة. أما القراءة الثانية فهي أن ما حدث مجرّد تراجع تكتيكي من بوتفليقة، ومن رجال حاشيته، وحلفائه من كارتل المال وطغمة الجيش، حتى يتم ترتيب الأوراق، وامتصاص الغضب الجماهيري، بحيث يتم الحفاظ على النظام، وتغيير رأسه فقط، كما حدث في مصر عقب تنحّي حسني مبارك في فبراير/ شباط 2011.
تحمل القراءتان قدراً من المعقولية، وإنْ كانت الأولى غارقةً في التفاؤل، وربما السذاجة، فإن الثانية يغلب عليها الحذر، وربما التشاؤم. شخصياً، أميل إلى القراءة الثانية، ليس لأنني متشائم، وإنما انطلاقاً من الواقع وتجربته، وإدراكاً لسلوك السلطويات العربية وبنيتها، في ضوء تجارب السنوات القليلة الماضية، فقد علّمتنا تجربة الموجة الأولى للربيع العربي، (ولعل هذا أحد الدروس القاسية من انتكاساتها وفشلها)، أنه لا يمكن بحال الثقة في وعود الإصلاح التي تأتي من أنظمة سلطويةٍ متمرسةٍ في التحايل على مطالب الشعوب، وفي ظل نخبٍ سياسيةٍ غارقةٍ في الكذب والخداع والانتهازية. كما أنه لا يمكن الاقتناع بأن ثمّة "حكمة مفاجئة" هبطت على بوتفليقة، ومن معه، جعلتهم يقتنعون بضرورة منح الحرية للشعب الجزائري، بعد عقود من السلطوية، وأن يضحّوا بمصالحهم ومزاياهم وثرواتهم الشخصية، من أجل إعادة الحقوق للشعب الجزائري. خصوصا وأنهم أنفسهم من أغلقوا باب التغيير، وجمّدوا الحياة السياسية في الجزائر طوال السنوات الماضية، بعدما عدّلوا الدستور الجزائري، من أجل فتح باب البقاء في السلطة على مصراعيه. ولو كان بوتفليقة صادقاً وحكيماً، لكان ترك السلطة منذ أقعده المرض قبل ستة أعوام، ولقاد بصدقٍ وهدوءٍ عملية انتقال ديمقراطي جادّة، وإنْ بطيئة، كي يحمي بلاده وشعبه من المصير المجهول. ولكنه اضطر الآن، هو ومن معه، إلى التراجع أمام الانتفاضة الجماهيرية التي كان من الصعب السيطرة عليها.
بكلماتٍ أخرى، يبدو إعلان بوتفليقة سحب ترشحه لانتخابات الرئاسة كما لو كان أقرب إلى انقلابٍ ناعم، وتدريجي، من كونه رغبةً في انتقال ديمقراطي حقيقي. وما هو سوى محاولة لامتصاص غضب الجماهير، تمهيداً لاستعادة زمام المبادرة منها، فقد كان خروج الجزائريين بالملايين إلى الشوارع مفاجئاً لكثيرين، خصوصا للنظام ورجاله وداعميه الدوليين، وهو ما أربك حساباتهم، وجعلهم في موقفٍ صعب، لم يكن أمامه سوى التراجع، وإن تكتيكياً.
الآن، الكرة في ملعب الشارع، وبين أقدام الجماهير الجزائرية التي خرجت إلى الميادين، وهي وحدها التي بمقدورها وقف هذا الانقلاب الناعم، وضمان عدم تحوّله إلى انقلاب خشن، يقوم بقمعها ووأدها، وإعادة المارد الشعبي إلى قمقمه مرة أخرى. وهو ما يعني حتمية ظهور قيادات جماهيرية واعية، تتجاوز الوسائط السياسية التقليدية، كالأحزاب والنقابات والجمعيات، وقادرة على فرض أجندة انتقال ديمقراطي على النظام ورجاله، ورسم خريطة طريق لهذا الانتقال. وهذا بحد ذاته صعب، ليس فقط لعفوية الاحتجاجات الشعبية، وعدم وجود قيادة لها، وإنما أيضا لصعوبة تخيّل وجود قيادات ونخب واعية، يمكنها الانتقال من مربع الثورة إلى مربع الدولة، عبر برنامج وفاقي للانتقال الديمقراطي. رأينا ذلك خلال الحالة المصرية التي مُزّقت فيها الثورة بين جماهير غاضبة ونخب منقسمة وغير ناضجة، إلى أن ضاعت الثورة، وانقضّ عليها العسكر. كذلك رأيناه، ولا نزال، في الحالتين، السورية والليبية، وكذلك الحالة اليمنية. كذلك لا يمكن التعويل مطلقاً على الأحزاب الكرتونية التي لن تتوانى عن عقد صفقةٍ مع بوتفليقة، تمتص بموجبها الهبّة الشعبية، في مقابل الشراكة في السلطة، سواء شراكة رمزية أو حقيقية. وإذا كان من درسٍ تعلّمناه من تجربة الربيع العربي، فهو أن السلطويات العربية لا تعدم الحيل والألاعيب، وأن الحذر معها فريضةٌ واجبة.
بكلماتٍ أخرى، يبدو إعلان بوتفليقة سحب ترشحه لانتخابات الرئاسة كما لو كان أقرب إلى انقلابٍ ناعم، وتدريجي، من كونه رغبةً في انتقال ديمقراطي حقيقي. وما هو سوى محاولة لامتصاص غضب الجماهير، تمهيداً لاستعادة زمام المبادرة منها، فقد كان خروج الجزائريين بالملايين إلى الشوارع مفاجئاً لكثيرين، خصوصا للنظام ورجاله وداعميه الدوليين، وهو ما أربك حساباتهم، وجعلهم في موقفٍ صعب، لم يكن أمامه سوى التراجع، وإن تكتيكياً.
الآن، الكرة في ملعب الشارع، وبين أقدام الجماهير الجزائرية التي خرجت إلى الميادين، وهي وحدها التي بمقدورها وقف هذا الانقلاب الناعم، وضمان عدم تحوّله إلى انقلاب خشن، يقوم بقمعها ووأدها، وإعادة المارد الشعبي إلى قمقمه مرة أخرى. وهو ما يعني حتمية ظهور قيادات جماهيرية واعية، تتجاوز الوسائط السياسية التقليدية، كالأحزاب والنقابات والجمعيات، وقادرة على فرض أجندة انتقال ديمقراطي على النظام ورجاله، ورسم خريطة طريق لهذا الانتقال. وهذا بحد ذاته صعب، ليس فقط لعفوية الاحتجاجات الشعبية، وعدم وجود قيادة لها، وإنما أيضا لصعوبة تخيّل وجود قيادات ونخب واعية، يمكنها الانتقال من مربع الثورة إلى مربع الدولة، عبر برنامج وفاقي للانتقال الديمقراطي. رأينا ذلك خلال الحالة المصرية التي مُزّقت فيها الثورة بين جماهير غاضبة ونخب منقسمة وغير ناضجة، إلى أن ضاعت الثورة، وانقضّ عليها العسكر. كذلك رأيناه، ولا نزال، في الحالتين، السورية والليبية، وكذلك الحالة اليمنية. كذلك لا يمكن التعويل مطلقاً على الأحزاب الكرتونية التي لن تتوانى عن عقد صفقةٍ مع بوتفليقة، تمتص بموجبها الهبّة الشعبية، في مقابل الشراكة في السلطة، سواء شراكة رمزية أو حقيقية. وإذا كان من درسٍ تعلّمناه من تجربة الربيع العربي، فهو أن السلطويات العربية لا تعدم الحيل والألاعيب، وأن الحذر معها فريضةٌ واجبة.