قبل ساعات من صدور قرار من النائب العام المصري نبيل صادق بإحالته لنيابة أمن الدولة العليا، كان الكاتب الصحافي مكرم محمد أحمد، رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، يحاول الاتصال بعدد من مسؤولي رئاسة الجمهورية والأجهزة السيادية، وعلى وجه الخصوص اللواء عباس كامل، مدير الاستخبارات العامة والمدير السابق لمكتب رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، للاستفسار منهم عن مصيره بعدما وصلته معلومات عن عدم رضا السيسي على أدائه كرئيس للمجلس، رغم كل ما بذله من جهود للسيطرة على المشهد الصحافي والإعلامي، ومساهمته في التضييق على حرية الصحافة، بل ولعبه دوراً في سيطرة الأجهزة السيادية على بعض المؤسسات الصحافية.
وكشفت مصادر مطلعة أنّ البيان الذي أصدره النائب العام قبل أيام بشأن مكرم، جاء مواكباً لمعلومات تتردّد في أروقة المجلس الأعلى للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة، مفادها أن رئيس الهيئة العامة للاستعلامات ضياء رشوان المعروف بعلاقته المتنامية مع كامل والمستشار الأمني للسيسي اللواء أحمد جمال الدين، مقابل علاقته المتأزّمة منذ سنوات مع مكرم، أبلغ بعض مسؤولي الصحف القومية بأن السيسي غير راض عن أداء مكرم، وأنّ الدائرة الاستخباراتية-الرقابية المحيطة به تبحث حالياً عن شخصية صحافية أخرى لتولي المنصب، سواء بعد انتهاء فترة مكرم عام 2020، أو بدفعه للاستقالة قبل ذلك الحين.
وجاء بيان النائب العام ليؤكد توتّر العلاقة بين مكرم والأجهزة الرئيسية المحيطة بالسيسي، وتحديداً الاستخبارات العامة والرقابة الإدارية. فالمخالفة القانونية التي زعم النائب العام أن مكرم ارتكبها، وهي إصدار قرار بحظر النشر في قضية إهدار أموال مستشفى علاج سرطان الأطفال "57357" التي أثيرت شبهات بشأنها أخيراً، سبق أن ارتكبها مكرم مراراً، بإصدار قرارات عديدة بحظر النشر أو وقف تداول بعض الأخبار أو عدم ترجمة أنواع معينة من التقارير الصحفية الأجنبية المناوئة للنظام الحاكم، لكن النائب العام لم يحرّك ساكناً في السابق.
كما أنّ الطريقة التي سرّب بها النائب العام الخبر لوسائل الإعلام حملت الكثير من الإهانات المقصودة لمكرم، الذي يتمتّع بحكم منصبه بمزايا وحصانة الوزير. فلم يسبق أن أمر النائب العام وزيراً بالمثول أمام نيابة أمن الدولة العليا لإصداره قراراً إدارياً، هو في حقيقته وفق قانون التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام، قابل للطعن أمام محكمة القضاء الإداري بصورة عادية. ويؤكّد ذلك أنّ قرار النائب العام كان فقط الجزء الظاهر من صخرة ستتحطّم عليها آمال مكرم في البقاء في منصبه أو في منصب أكبر مستقبلاً.
وشرحت المصادر المطلعة ذاتها لـ"العربي الجديد"، أسباباً عدة لانقلاب السيسي على مكرم؛ أوّلها إسرافه في إصدار قرارات تزيد إحراج النظام مع الإعلام الغربي والدوائر الأجنبية. فعلى النقيض من تعامل هيئة الاستعلامات برئاسة رشوان مع وسائل الإعلام الغربية بتصيّد واضح ولكن بإصدار بيانات هادئة مستفيضة في الردود والأدلة، يتعامل مكرم ومجلسه مع القنوات الأجنبية العاملة في مصر والصحف المحلية لدى نقلها من وكالات أجنبية، بطريقة أقرب لتعامل الشرطة الغليظ مع المتظاهرين.
وأوضحت المصادر أنّ "لهجة مكرم الحادة والمتصاعدة ضدّ الحريات، وعمله على تضييق الهوامش المتاحة للصحافة، تسبّبت في سلبيات عديدة للنظام، رصدتها اللجنة عالية المستوى التي كان يديرها كامل بعضوية جمال الدين ورشوان وممثلين عن وزارات الخارجية والداخلية والدفاع والعدل والاستخبارات العامة، لتحسين صورة مصر في الخارج ورسم سياسات التواصل السياسي والإعلامي مع الدول الأجنبية، وبصفة خاصة الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الكبرى، فضلاً عن المنظمات الدولية الرسمية والمستقلة".
وقد حمّلت هذه اللجنة مكرم ومجلسه مسؤولية عدد من المشاكل التي واجهت الدعاية لنظام السيسي في الخارج، وطالبته باتباع طريقة أخرى أكثر هدوءاً وأقل توتراً. لكنّ الكاتب الذي أكمل منذ أيام عامه الثالث والثمانين، لم يستجب لنصائح رشوان والأجهزة الأخرى بالتهدئة، وظنّ أن ممارسة مزيد من التضييق وإطلاق التهديدات لوسائل الإعلام المحلية والأجنبية هي الوسيلة المثلى لرفع رصيده عند السيسي.
أمّا السبب الثاني، بحسب المصادر، فيتمثّل في أنّ بعض الوشاة نقلوا لدائرة السيسي على لسان مكرم بعض الانتقادات لسياساته الاقتصادية، حيث أدى ذلك لربط بعض مستشاري السيسي بين تلك الانتقادات والعلاقة الوطيدة التي تربط مكرم برئيس الوزراء الأسبق أحمد شفيق، والدور الذي حاول لعبه في بداية أزمة عودته لمصر مرحلاً من الإمارات لإعادته للمشهد السياسي وتحقيق مكاسب لحزبه السياسي، وهو ما رفضه السيسي آنذاك.
وأشارت المصادر إلى أن انقلاب السيسي ودائرته على مكرم دفع الأخير لاتخاذ بعض الإجراءات "الهيستيرية" لإثبات ولائه للنظام، مثل تشكيل لجان لمتابعة صفحات مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بالصحافيين والعاملين في المجلس الأعلى للإعلام، والتواصل مع جهاز الأمن الوطني للإبلاغ عن الانتقادات الموجهة للنظام، ومحاولة التدخّل تحريرياً في سياسة بعض الصحف، وتوجيه تحذيرات سريّة لها من دون اتباع الإجراءات المقرّرة قانوناً.
ويمثل مكرم أمام نيابة أمن الدولة العليا، غداً الأربعاء، للتحقيق معه في ما يتعلّق باعتدائه على سلطة النائب العام في حظر النشر، والتدخّل في حرية الصحف في نشر معلومات حول قضية مستشفى سرطان الأطفال، في حين سيتم حظر النشر في هذه التحقيقات.