في مارس/ آذار 2017، وبعد وقت قصير من تسلم رجل الأعمال النيويوركي، الجمهوري دونالد ترامب، مفاتيح البيت الأبيض من سلفه الديمقراطي باراك أوباما، خرجت مجلة "فورين أفيرز" بعدد مخصص لـ"زمن ترامب"، حاولت فيه التوصل إلى أسباب خارجية وداخلية مقنعة لوصول نجم تلفزيون الواقع إلى قيادة الولايات المتحدة. وتحت عناوين عدة، من الاقتصاد إلى سطوع الشعبوية وبدائل النظام العالمي الجديد، إلى إعادة الاعتبار لهوية الأميركيين البيض غير المتعلمين، منذ مجيء أول رئيس شعبوي هو أندرو جاكسون للسلطة، سلّطت المجلة الضوء على ظاهرة ترامب باعتبارها مؤسسة لحقبة أميركية جديدة، عنوانها "أميركا أولاً"، سيكون محلها في الاعتبار مربوطاً ليس فقط بالسياسة الخارجية لترامب، ولكن في كيفية مصالحة الأميركيين في الداخل، مع الإبقاء على مفهومهم في "الدولة - الهوية" التي تمجد مفاهيم الحرية الشخصية وحرية التعبير والديمقراطية. اليوم، وعلى بعد أقل من 3 أشهر من "يوم الانتخاب"، يتسارع الانهيار في شعبية الرئيس الطامح لولاية ثانية، لتبدو عناوين "فورين أفيرز" البرّاقة وقد تخطاها الزمن. وقد يكون الانهيار مرده بالدرجة الأولى إلى تفشي وباء كورونا، والضرر المباشر الذي ألحقه بمعيشة الأميركيين واقتصادهم، وأصابهم في صميم تغنيهم بتفوقهم العلمي. لكن ذلك لا يمحو انفضاح ترامب، كرجل تكتيك وليس استراتيجيا، لم يتمكن مع دنو يوم الاقتراع، من الخروج من زهو تبوّئه في العام 2016، معدلات المشاهدة العالية على التلفاز، ولا يزال مقتنعاً بأن نجاحه في استقطاب المتابعة والمشاهدة، وخطابه غير الكلاسيكي، ووهجه الإعلامي، حتى مع تراكم الهفوات، هي سرّ نجاحه، الذي يقوده حدسه إلى استمرار التمسك بها.
ولا يخفى أن تراكم المشاكل في الولايات المتحدة، بات أقوى من أن يتمكن الرئيس من حلّها، حتى مع توقيعه أخيراً أمراً تنفيذياً بتأجيل دفع الضرائب على الرواتب، الذي يهدف إلى دفع الاقتصاد على المدى القصير، لكنه من جهة مقابلة، يؤخر دفع مستحقات صندوق الضمان الاجتماعي. ويرى المعارضون أن الخطوة من شأنها الإضرار كثيراً بنظام "ميديكير" الصحي والضمان الاجتماعي الذي وعد ترامب خلال حملته السابقة بعدم المساس به.
لا تزال التظاهرات ضد العنصرية مندلعة في البلاد، ويتوقع استمرارها طوال الصيف
وفيما لا تزال التظاهرات ضد العنصرية مندلعة في البلاد، وهي أزمة أضيفت إلى سلسلة أزمات ترامب مع بداية عام 2020، ويتوقع استمرارها طوال الصيف، يبدو أن لا عصا سحرية في يد الرئيس لإنقاذ شعبيته المتهالكة، وسط تلاشي قدرته على جذب الانتباه التي كانت في أوجها قبل أعوام. ورأى تقرير، نشر أمس الثلاثاء، لوكالة "أسوشييتد برس"، أن حلول ترامب على طريقة "الوجبات السريعة" لم يعد نافعاً، فغياب الاستراتيجية طويلة الأمد لمعالجة الأزمات، لا يزال سيّد الموقف في البيت الأبيض، حيث يجلس رئيس يؤمن بأن مصدر قوته هو بقاء احتلال اسمه للعناوين، وذلك من خلال استعادته للمؤتمرات الصحافية منفرداً حول كورونا، مهمّشاً المسؤولين الصحيين، ومعولاً على مناظرات مع خصمه الديمقراطي جو بايدن، لتغطية عجزه في استطلاعات الرأي. واعتبر التقرير أن توقيع أوامر تنفيذية لمعالجة تداعيات كورونا، لا يصب سوى في إطار محاولة الرئيس إظهار نفسه كصاحب قرارات، على الرغم من قصر مدى فعاليتها، وإثارتها السجال. ورأى 3 مسؤولين سابقين وحاليين في حملة الرئيس، لم يفصحوا عن أسمائهم، للوكالة، أنه "بخلاف أي رئيس أميركي آخر، يركز ترامب على التغطية الإعلامية، بهدف ليس فقط الفوز بعناوين الأخبار، بل بأي لحظة على مواقع التواصل الاجتماعي وفي محطات التلفزة، ما يجعله يشدد على التكتيك وليس الاستراتيجيا، والفوز بانتصار قصير الأمد، من دون إيلاء الاعتبار إلى أن ذلك سوف يقوده إلى مشاكل طويلة الأمد". واعتبرت المصادر أن هذا السلوك "سمح للرئيس الجمهوري حتى الآن بالتغلب على العديد من التهديدات التي أحاطت برئاسته، لكنها أيضاً قد تكون هي التي ساهمت في انهيار شعبيته فور وصول كورونا إلى السواحل الأميركية".
وقال مايكل ستيل، وهو رئيس المؤتمر الوطني السابق للحزب الجمهوري، ومعارض لترامب، إن "جزءاً من استراتيجية الأخير يكمن في امتصاص كل الأوكسجين في الغرفة"، ما يعني أن "ماهية الأشياء ليست دائماً مهمة، بقدر كمية الأضواء التي ستسلط على جبينه". ومؤمناً بأنه أفضل متحدث عن نفسه، وعد ترامب، بعد استعادة مؤتمراته الصحافية حول كورونا، حتى مع تولي المتحدثة باسمه كايلي ماكاني إنجاز مؤتمرات صحافية يومية حول الوباء، بأن إيجازه سيكون مختصراً، وسيمتثل لنصائح بالالتزام بالمسألة الأساسية، وعدم إثارة مواضيع جانبية، كما أنه يعول على خطابه لمؤتمر الحزب الهادف إلى إعادة ترشيحه وعلى مناظرات مع بايدن، لكن التقرير اعتبر أنه بعدما كانت تغريدات ترامب تقلب الدنيا في واشنطن رأساً على عقب، فإنها تمر اليوم من دون أن تثير أي انتباه، فيما لم تعد محطات التلفزة تنقل مؤتمراته الصحافية.
يشدد ترامب على التكتيك وليس الاستراتيجيا، والفوز بانتصار قصير الأمد
ورأى المتحدث باسم خصمه، جو بايدن، تي جي دوكلو، في حديث لـ"أسوشييتد برس"، أن "رئاسة ترامب لم تكن يوماً حول جعل أميركا عظيمة مجدداً، وهي حقيقة مُرّة أثبتها مجدداً الأسبوع الماضي، عبر توقيعه قرارات من شأنها إثارة المزيد من الفوضى، وستخفق في المعالجة الجدية للأزمة الصحية والاقتصادية التي تعصف بالعائلات الأميركية". واعتبر دوكلو أن "الرئيس يقوم بهندسة طرق لكسب الإعجاب، بدلاً من فرض ردّ وطني حقيقي على الوباء".
وتعتبر التظاهرات المناهضة للعنصرية، المعضلة الثانية الداخلية التي جعلت من عام 2020 نذير شؤم على ترامب، وسعيه للبقاء في البيت الأبيض 4 أعوام إضافية. في هذا الإطار، وضع الرئيس مجدداً، الحلّ للعنف الذي لا يزال يدور خصوصاً بين الشرطة والمتظاهرين في بورتلاند وشيكاغو، على طريقة الوجبات السريعة، عبر استعادة التشديد على أن "إرسال الحرس الوطني" هو الأنسب. ورأت صحيفة "واشنطن بوست" أن صيف الولايات المتحدة الحار، لا سيما في المدينتين المشتعلتين، لا يبدو في طريقه للانتهاء، فيما يتمسك الرئيس، الذي بنى حملته على فزاعة العنف وعودة المجرمين، وإثارة الهلع من مد اليسار، باستثمار الأزمة لصالحه.
(العربي الجديد، أسوشيتد برس)