قبل 25 عاماً اهتزت روسيا، ففي مثل هذه الأيام شهدت موسكو أحداثاً دراماتيكية ومثيرة للجدل مهّدت الطريق لانهيار الاتحاد السوفييتي، وحددت المسار التاريخي لروسيا في تسعينيات القرن الماضي. في أغسطس/آب 1991، شكّلت مجموعة من كبار الشخصيات بالدولة، الرافضة لسياسات آخر زعيم للاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، "لجنة الدولة لحالة الطوارئ" بهدف منع تفكك الاتحاد والعودة بالمسار السياسي إلى مرحلة ما قبل برنامج إصلاحات "البيريسترويكا" (إعادة البناء)، التي أطلقها غورباتشوف منذ منتصف الثمانينيات.
وقد ضمّت اللجنة عدداً من المسؤولين، بمن فيهم وزير الدفاع، دميتري يازوف، ووزير الداخلية، بوريس بوغو، ورئيس جهاز الأمن السوفييتي "كي جي بي"، فلاديمير كريوتشكوف، وغيرهم. وعلى الرغم من أن اللجنة لم تضم رئيساً معلناً، إلا أن نائب رئيس الاتحاد السوفييتي، غينادي يانايف، كان هو القائد الفعلي لمحاولة الانقلاب.
وفي صباح 19 أغسطس، حاصرت قوات "كي جي بي" الموالية للجنة، استراحة غورباتشوف، في منطقة فوروس، جنوب شبه جزيرة القرم. وبعد ساعات قليلة، جرى بث بيان إذاعي مفاده أن غورباتشوف لم يعد قادراً على أداء مهام رئيس الدولة لـ"أسباب صحية"، وأن "لجنة الدولة لحالة الطوارئ" ستتولى قيادة البلاد.
إلا أن رئيس جمهورية روسيا السوفييتية الاتحادية الاشتراكية آنذاك، بوريس يلتسين، اعتبر أعمال اللجنة غير قانونية وتوجه إلى مبنى مجلس السوفييت لجمهورية روسيا (البيت الأبيض)، كما بدأت تظاهرة نظمها معارضو الانقلاب. وألقى يلتسين كلمته الشهيرة إلى أنصاره من فوق دبابة أمام البيت الأبيض، معلناً فيها عن رفضه لـ"الانقلاب غير الدستوري" مهما كانت المبررات.
وكان من المفترض أن يتم اقتحام البيت الأبيض ليل 21 أغسطس، وبدأت القوات العسكرية تجوب شوارع موسكو، ولكن أعضاء "لجنة الطوارئ" لم يصدروا مثل هذا الأمر للقوات الموالية لها. ومع ذلك، فقد أسفرت الاشتباكات بين العسكريين والمدافعين عن البيت الأبيض، عن مقتل 3 متظاهرين.
بعد فشل الانقلاب وبدء انسحاب القوات، عاد غورباتشوف إلى موسكو في 22 أغسطس، وتم توقيف أعضاء "لجنة الطوارئ"، فيما قتل وزير الداخلية، بوريس بوغو، زوجته وانتحر، كي لا يُعتقل. وظلّ أعضاء اللجنة في السجون حتى العفو عنهم في عام 1994.
في هذا الإطار، يشير كبير الباحثين بمعهد علم الاجتماع التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أندريه أندرييف، إلى أن "انقلاب أغسطس كان حدثاً مفصلياً على الطريق نحو تفكك الاتحاد السوفييتي، وغيّر موازين القوى، ليصبح إبعاد غورباتشوف مسألة وقت". ويضيف أندرييف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "روسيا، سواء على مستوى القيادة أو الشعب، لم تعد ترغب في استمرار الاتحاد السوفييتي في الوجود، لأنه كان قائماً على دعم اقتصادات أضعف". ويتابع: "باستثناء أوكرانيا وبيلاروسيا، كانت الجمهوريات السوفييتية تعتمد على الدعم الاقتصادي من موسكو، ولم يكن ليبقى في روسيا، على سبيل المثال، سوى 70 في المائة من الضرائب التي كان يتم جبايتها".
وحول أسباب فشل الانقلاب، يشير أندرييف، إلى أنه "لم يكن من بدأ ذلك مستعداً للمضي حتى النهاية، ولم يكن هناك قائد حقيقي. كان يمكنهم فض التظاهرة أمام البيت الأبيض بمنتهى السهولة، ولكن ذلك كان يمكن أن يؤدي إلى سقوط قتلى، ولم تجرؤ اللجنة على ذلك".
في المقابل، ينوّه الباحث الروسي إلى أن "يلتسين لم يتردد أثناء الأزمة السياسية في خريف عام 1993، في إصدار أوامر بقصف البيت الأبيض بالدبابات، مما أسفر عن مقتل أكثر من 100 شخص. وكانت هذه الأزمة ناجمة عن خلافات حول الإصلاحات وأساليب بناء الدولة الجديدة، بين السلطة التنفيذية بقيادة يلتسين والبرلمان برئاسة رسلان حسبولاتوف".
أما فيما يتعلق بالتداعيات السلبية لصعود يلتسين كأول رئيس روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي، يقول أندرييف: "أسفر هذا عن ارتباط جهاز الحكم بالأوساط الإجرامية ونهب ثروات الدولة، من خلال برنامج خصخصة كان يتم في إطاره بيع الأصول لأشخاص مقربين بمقابل أقل كثيراً من قيمتها الفعلية، وقيام الطبقة الأوليغارشية والرأسمالية الناهبة وغيره. ولا تزال روسيا تعاني من تداعيات ذلك حتى الآن". ويضيف: "إلى جانب ذلك، قبل يلتسين التعاون مع الخارج، وكانت هذه في الواقع أول ثورة ملونة، على غرار تلك التي شهدتها أوكرانيا، كما كان الرئيس الروسي محاطاً بمستشارين أجانب".
وعلى الرغم من مرور ربع قرن على الأحداث، إلا أنه ليس هناك إجماع بين سكان روسيا على تقييم ما حصل في أغسطس 1991، إذ أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز "ليفادا" عشية الذكرى، أن 41 في المائة من المستطلعة آراؤهم يعتبرون أن البلاد اتبعت مساراً خاطئاً منذ محاولة الانقلاب، في مقابل تأييد 33 في المائة لهذا المسار.
وقد أسفر الانقلاب الفاشل عن نسف مكانة الحزب الشيوعي السوفييتي بشكل نهائي، في مقابل زيادة نفوذ يلتسين وأنصاره، لتبلغ عملية تفكك الاتحاد السوفييتي نقطة اللاعودة. وبعد أشهر قليلة، وقّع قادة روسيا، يلتسين، وأوكرانيا، ليونيد كرافتشوك، وبيلاروسيا، ستانيسلاف شوشكيفيتش، في 8 ديسمبر/كانون الأول 1991، على اتفاقيات "بيلوفيزسكايا بوشا" التي أنهت الاتحاد السوفييتي وأقامت بدلاً منه رابطة الدول المستقلة.
وفي 25 ديسمبر 1991، ألقى غورباتشوف كلمة وداع، أعلن فيها تنحّيه عن الحكم لتمسكه بـ"وحدة الدولة". وفي اليوم التالي، تم إصدار إعلان الاعتراف باستقلال 15 جمهورية سوفييتية سابقة، لتدخل مرحلة جديدة من تاريخها عاشت خلالها أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية بالغة الخطورة.
ومع انتهاء وجود أكبر دولة على الخريطة، أعلنت روسيا نفسها وريثة شرعية للاتحاد السوفييتي، بينما دخل العالم أجمع حقبة جديدة اتسمت بتراجع نفوذ موسكو لمدة عقدين تقريباً، وقيام نظام القطب الأوحد والهيمنة الأميركية على الساحة السياسية الدولية.