لا يتمالك أي فلسطيني حر نفسه حين يرى عربدة الاحتلال الفاشي على الانسان والشجر والحجر، والتعامل مع المشاهد الإنسانية القاسية، التي يتفنّن فيها جنود الاحتلال ومستوطنوه بالتمتع بسادية قذرة وهم يشاهدون امرأة يصفعها جندي، أو طفلاً يركله شرطي، أو كهلاً يهوي به مستوطن الى الأرض. ولن يتمالك كل مَن لديه الحس الإنساني في أن يستنكر هذه الأفعال بل ويبدي رأيه من دون تردد.
قبيل أيام، كان رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، يخوض في موضوع المصالحة الفلسطينية، إلا أن خطابه لم يرتق الى روح المصالحة، ويبدو غير قادر على تجاوز مرحلة بداية الانقسام في 2007 واستقر به المقام عند ذلك المنعطف. وباستثناء بعض الخطوات البرتوكولية، سقط التنفيذ الحقيقي للمصالحة من أولوياته، التي من شأنها أن تشدّ من عضد الصف الداخلي الفلسطيني في مواجهة الهجمة الاسرائيلية الشرسة على تاريخ وجغرافيا الشعب الفلسطيني.
الأمر الذي يثير الاستغراب الآن، كيف أن خطاب السيد أبو مازن، بعد حادثة اختفاء المستوطنين الثلاثة في الخليل، حمل كثيراً من رسائل "غزل" للاحتلال وقيادته. فكل ما صدر عنه هو استعداده للتعاون التام مع الجهات الأمنية للاحتلال، بهدف الوصول الى "المختطفين" الثلاثة. بل وتناقلت مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لضباط من قوات الاحتلال برفقة "نظرائهم" الفلسطينيين، وهم عاكفون على خريطة لتحديد مهام كل طرف في عملية البحث. هذا الموقف ألحقه السيد أبو مازن بـ"تقديس التنسيق الأمني" مع الاحتلال، وهو ما أثار ردود أفعال غاضبة حتى داخل أروقة حركة "فتح"، خصوصاً بالنظر الى التوقيت.
سبق هذا الموقف، السلوك الشائن لقوات الأمن الفلسطينية، وهي تقمع اعتصامات المتضامنين مع إضراب المعتقلين الفلسطينيين في السجون. تبعه قمع لأية محاولة لرفض التنسيق الأمني مع الاحتلال. موقف لا سابقة له في المشهد الفلسطيني، وبالذات في ما يتعلق بالأسرى، إذ يضع الجميع خلافاتهم جانباً، ويتضامن "الكل" الفلسطيني مع المعتقلين في سجون المحتل.
يبدو أن ذاكرة العصافير، يمتلكها عدد من الناس أكثر ممّا نتوقع، لينسى أن هؤلاء الثلاثة هم من مستوطني "كريات أربع"، الجاثمة في وسط مدينة الخليل، وليس على أطرافها، ولا ضمن الأراضي التي تم بيعها في أوسلو. هؤلاء مَن يعربدون ليل نهار في أرضنا ويحرقون زيتوننا، ويهاجمون تلاميذنا، ويقتلون شبابنا للتسلية. هؤلاء الثلاثة ليسوا إلا مغتصبي حقوق، هم وقادتهم الذين يدفع الرئيس الفلسطيني نحو رفع درجات التنسيق الأمني معهم إلى أعلى المستويات، دونما شعور بالمسؤولية عن حقوق هذا الشعب الذي يفترض أنه رئيس سلطته الهزيلة، التي يجيز الحاكم العسكري الإسرائيلي لها، أو لا يجيز، كل شؤون حياتها.
إطلاق صفة "التقديس" على العلاقة الأمنية التي تجمع كيان السلطة الفلسطينية المتهالك مع المحتل، في وقت يقلب فيه الاحتلال كل حجر في الضفة، منتهكاً كل حقوق إنسانية ممكنة، ووصولاً الى إعلان رئيس الوزراء الاسرائيلي، أمس، أن عنصرين ينتميان لـ"حماس" مشتركان في عملية الخطف، وأن ذلك جاء نتاجاً لمعلومة أمنية مررتها أجهزة الأمن الفلسطينية في الضفة الغربية عن اختفاء الشخصين في الفترة ذاتها التي اختفى فيها المستوطنون الثلاثة، لدلالة مذلّة على مدى هذا التعاون الأمني واختراقه لمعايير احترام الذات، وبما يتنافى مع مفهوم مقاومة المحتل كلياً.
حيال هذا المشهد الهزلي، يقف المرء حائراً ومتسائلاً: أنّى لهذه المنظومة التي أفرزها اتفاق أوسلو المشؤوم أن تكون على مستوى التحدي في المطالبة بالحقوق الفلسطينية في تحرير الأرض والانسان؟ كيف تتحدى وتنسّق مع الطرف ذاته؟ ما هي أوراق القوة التي تمتلكها أمام مَن تطلب منه تصريحاً للدخول أو الخروج من المقاطعة؟ بأي وسيلة سيُحاكم باراك ونتنياهو وليفني أمام المحافل الدولية لضلوعهم في قتل الفلسطينيين، فيما قيادتهم تصافحهم وتجلس إليهم في "جلسات رومانسية" في لندن وهرتسليا؟
تساؤلات عديدة بتنا أمامها، وتحتاج وقفات جادة بعيداً عن الصبيانية الحزبية، والمصالح الضيقة للمرتزقة في المواقع القيادية، تحتاج الى وقفة مع الذات لتحديد البوصلة، لمعرفة مَن هو العدو ومَن هو الصديق، وما هي أوراق القوة، وأين هو الملعب، مَن هو اللاعب الاحتياطي وما هي الخطط البديلة؟ وهل يثبت الشعب الفلسطيني مجدداً أنه قادر على رسم خريطة دولته بالطريقة التي يعرف، بعيداً عن "هزليات" السياسة الرسمية الفلسطينية؟