أيمكن لأيّ سينما أنْ تُعيد تقديم المشهد البيروتي، الحاصل في 4 أغسطس/آب 2020؟ أيُمكن لأيّ مخرجٍ، لبنانيّ أو عربيّ أو أجنبيّ، أنْ يبتكر من اللحظة (هذه اللحظة وأي لحظة) صنيعاً سينمائيّاً يتساوى وحجم الكارثة، المنفتحة على أهوال مزمنة، وفساد دائم، ونهب يتجاوز المال العام والخاص؟ أيُمكن لأيّ مُشاهدٍ في العالم أنْ يجلس صامتاً أمام شاشة تروي له (إنْ تتمكّن من ذلك)، بصُوَر أو بكلامٍ أو بصمتٍ، بعض موتٍ وبعض جرحٍ وبعض ألمٍ وبعض بكاءٍ وبعض ضياع وبعض دمٍ وبعض دمعٍ وبعض قهرٍ وبعض خيبةٍ وبعض ضياعٍ وبعض صراخٍ، وهذا الصراخ مُعطّل ومهزوم وتائه، فالجماعة الحاكمة منهمكةٌ فيما يُلبّي شهواتها وغرائزها، وهذه تزداد وتقوى ـ يوماً تلو آخر ـ بجوعٍ وفقر وخيبات، والحاصل قبل 3 أيامٍ يؤكّد مُجدّداً أنّ الجماعة الحاكمة خارج الزمان والمكان، ومُنفضّة عن الراهن، وغير آبهةٍ ببلدٍ وأناسٍ، وغير مُكترثةٍ بشعبٍ وحقوقه، فالنزاعات بين أطرافها قائمة دائماً، وهذا أهمّ لها لتثبيت موقع وتسلّط، ولتحصين مصلحة وتبعيّات.
تتكاثر الأسئلة. المُصيبة تحول دون تفكيرٍ أو قولٍ يخرجان على أسئلة مُشتّتة، كتشتّتٍ حاصلٍ لحظة الانفجار وبعده، وأمام شاشاتٍ تعرض أشرطة ومتابعاتٍ تعكس هول الكارثة، وحجم القهر، وقسوة الآنيّ. والمُصيبة، التي تطرح أسئلةً من دون أجوبة، تتشابه وقهرٍ مُتأتٍ من انهيارات غير منتهية، ومن بؤس مستمرّ في إنتاج ذاته لحظة بلحظة. يقع انفجار في مرفأ بيروت، فتُعلَن أسبابٌ غير مُقنعة، وتُذكَر وقائع عملية لكشف حقائق ومحاكمة مسؤولين عن الكارثة، لكنْ لا شيء يؤكّد مدى التزام السلطة بـ"تهديداتها"، فالتجارب السابقة كارثيّة ككارثة مرفأ بيروت. والسلطة نفسها تُمارِس ألاعيب تشتهر بها دائماً. في الوقت نفسه، يتفشّى ادّعاءٌ إعلاميّ بأصول مهنة وحِرفيّتها، فيتجنّب إعلاميون كثيرون كلّ ما يكشف اتّساع الهوّة بين المواطن والجماعة الحاكمة لحظة الموت والخراب، كما قبلهما أيضاً، بحجّة قواعد المهنة وأخلاقيّاتها، والمهنة فاقدة قواعد وأخلاقيّات، لأنّ عاملين فيها يُسيئون يومياً إليها.
أسياد الإعلام يحصرون أصول المهنة وأخلاقيّاتها، بعد تشويه الأصول والأخلاقيّات، بمصالح وعلاقات تخرج كلّها على المهنة وأصولها وأخلاقيّاتها من أجل مكاسب ونفوذٍ، بينما كشف الحقائق ممنوعٌ، حمايةً لمصالح وعلاقات ومكاسب ونفوذ.
يصمتُ سينمائيون لبنانيون. فشكل المصائب، وبعضها يؤدّي إلى "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019)، يتبدّل يوماً تلو آخر، والمصائب تزداد يوماً تلو آخر. لكنّ توقّعَ كارثة كهذه ـ لن تكون السياسة والصراعات القبائلية والتدخّلات الخارجية بمنأى عنها ـ كذبٌ وافتراء. والجماعة الحاكمة مرتبكةٌ كارتباكها أمام مطالب محقّة لأناسٍ ترفض منحهم حقوقهم؛ وأمام وباء متفشٍّ في أمكنة وعقول وتفكير، لعجزٍ فادحٍ في أنماط تفكيرها واشتغالاتها وسلوكها ووعيها؛ وأمام انهيار يُصيب الجميع، وكثيرون من هؤلاء الـ"جميع" صامتون وخانعون وموافقون؛ وأمام انفجار يؤدّي إلى مزيدٍ من فضائح وكوارث تتجاوز الماديّ والروحيّ إلى ما هو أبشع وأقسى.
يصمتُ سينمائيون لبنانيون قبل كارثة الانفجار. قلّة منهم تكتب وتقول. قلّة منهم تلجأ إلى صُوَر فوتوغرافية وأشرطة فيديو وحكايات وذكريات قديمة، فهذه فسحةٌ لاستراحة وتأمّل هادئ بعيداً (ولو قليلاً) عن صخب اليوميّ وتفاهته وجنونه وهلوساته. قلّة منهم تُفكِّر في مقبلٍ من الأيام والمشاريع. لكنّ هول الانفجار، المتجاوز حالته كانفجارٍ إلى ما هو أسوأ وأخطر وأكثر كارثيّة، يحول دون تنبّه إلى مدى قدرة السينما على مواكبة الحدث، إنْ تكن السينما قادرةٌ على ذلك؛ أو يحول دون قدرة السينما نفسها على ابتكار ما يواكب الحدث ويوثّقه ويُصوّره، أو ما يتفوّق عليه ويسبقه، إذْ تعتاد سينمات كثيرة على استباق أحداثٍ تُعرض على شاشاتٍ قبل حدوثها في واقع، أو ما يُشبه حدوثها في واقع.
لكنْ، أتمتلك السينما في لبنان ما يُعينها على استباق أحداثٍ ومصائب وكوارث؟ براعة أفلامٍ عدّة، وغالبيتها وثائقية، تكمن في كشفٍ وبوحٍ وفضحٍ لسابقٍ، لا في قولٍ يسبق ما يُمكن أنْ يحصل. أي أنّ الحاصلَ نواةٌ لأفلامٍ توثِّق لتفضح، وتنقِّب لتقول، بينما استباق ما يُمكن حصوله غائبٌ، فبراعة سينما سبّاقة تحتاج إلى مقوّمات غير متوفّرة في بلدٍ يُعاني غياباً مُطلقاً لحاجات أساسية، وبعض تلك الحاجات حُكمٌ ذو أخلاقٍ تكترث بالناس وهمومها، وتصنع بلداً لهم ووطناً يُغريهم بالبقاء فيه؛ وسلطة صائبة في علاقاتها بناسها واجتماعها وحضورها؛ وشعب واعٍ يُحاكِم جماعة حاكمة عند نهبها لحقوقه، وسرقة أمواله، والإساءة في إدارة شؤون بلدٍ واجتماعٍ واقتصادٍ.
انفجار مرفأ بيروت قبل 3 أيام مُصيبةٌ تتفوّق، لشدّة قوّتها المادية وغير المادية، على مصائب نهب وفساد وقهرٍ وقمع وإقصاء وتشاوف وادّعاءات ولامبالاة. بل إنّ الانفجار نفسه امتدادٌ لنهب وفساد وقهر وقمع، في بلدٍ يرضخ لـ"عهدٍ" يصف نفسه بأنّه "قويّ"، فإذا بالخراب يعمّ كلّ شيء، والانفجار الأخير يؤدّي إلى إعلان بيروت "مدينة منكوبة"، ونكبتها الفعلية حاصلةٌ بسبب جماعة حاكمة تنهب وتعيث فساداً وتمارس إجراماً. والسينما، هنا، تعجز عن فعلٍ يُتوقَّع منها أنْ تفعله، فالمُصيبة قاتلةٌ لشدّة هولها، والصمت أفضل، والبؤس أقوى، والاستسلام ربما يكون خطّ دفاع أخيراً لأناسٍ بائسين ومتعَبين ومقهورين، لكنّهم صامتون وخانعون، وهذه مُصيبة ربما تكون أقسى من مُصيبة الانفجار، والسابق عليه أيضاً.
لكنّ السؤال الأساسيّ معلّقٌ وأجوبته مبتورةٌ إلى زمنٍ مديد: أيُمكن للسينما، حقّاً، أنْ تستوعب هذا الخراب اللبناني كلّه؟