13 فبراير 2022
انحسار الديمقراطيات شرقاً وغرباً
لا يقتصر تراجع الديمقراطية وانحسارها على المنطقة العربية فحسب، وإنما يبدو الأمر وكأنه موجة أصابت العالم شرقاً وغرباً مع صعود السلطويات من جهة، وتراجع أداء نماذج الحكم الرشيد في الديمقراطيات الراسخة من جهة أخرى.
وعلى مدار الأعوام الثلاثة الأخيرة، دار نقاش واسع بشأن مسألة تراجع الديمقراطية وانحسارها بين خبراء العلوم السياسية وأساتذتها، خصوصا المهتمين بالمسألة الديمقراطية، أمثال المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما، وأستاذ العلوم السياسية فيليب شميتر، المتخصص في مجال التحول الديمقراطي، ونظيريه لاري دايموند وتوماس كراوثور، ولكل منهم باع طويل في حقل الدراسات الديمقراطية، لكنهم اختلفوا بشأن ما إذا كانت الديمقراطية في تراجع أم لا. فبينما يري فوكوياما وشميتر أن المسألة ليست تراجعا بقدر ما هي ضعف في أداء الحكومات المنتخبة، وعدم قدرتها على الاستجابة لمطالب ناخبيها. وحجتهم في ذلك أن الطلب على الديمقراطية والحرية يتزايد، خصوصا في بلدان العالم الثالث التي تعاني من أنظمة حكم سلطوية، والمشكلة في فشل الأنظمة الجديدة في تحقيق وعود الديمقراطية. في حين أن أداء الديمقراطية في أوروبا الغربية تراجع لأسباب اقتصادية ومالية بالأساس، وليس لوجود عيب في الديمقراطية ذاتها.
وهنا ينافح فوكوياما، على سبيل المثال، بالقول إن ثمة ثلاثة أبعاد مهمة لقياس الأداء الديمقراطي الجيد، وهي تتعلق باستخدام الدولة للقوة وحكم القانون والمساءلة الديمقراطية. بالنسبة للأولى، فإنه يعني أن الدولة لا بد أن توازن بين استخدامها القوة من جهة، وخضوعها للقانون والرقابة على استخدامها للقوة من جهة أخرى، وذلك حتى لا تتحول إلى دولة خارج القانون أو فوقه. في الوقت نفسه، يرى شميتر أن المشكلة ليست في التراجع الديمقراطي، خصوصا من ناحية العدد، ولكن في طبيعة المقاييس المتبعة في تحديد ما إذا كانت دولة ما قد تراجعت عن الديمقراطية أم لا. وهنا ينتقد شميتر بشدة مقياس "بيت الحرية" الأميركي Freedom House، والذي يعد المقياس الأشهر فيما يتعلق بالحرية والديمقراطية في العالم، ويصدر بذلك تقريراً سنويا معروفاً يصنف الدول ما بين 1- 5 فيما يتعلق بمستوى الحريات المختلفة بها. كذلك يرى شميتر أن السياسات النيوليبرالية التي اتبعتها بعض الدول التي تحولت إلى الديمقراطية حديثاً قد أدت إلى مشكلات عديدة، خصوصا بين الطبقات الفقيرة التي فقدت الثقة بالديمقراطية وبالعملية الانتخابية باعتبارها التي جاءت بهؤلاء الحكام الذين اتبعوا تلك السياسات الاقتصادية. ويرى شميتر أن الحركات الاحتجاجية والانتفاضات التي حدثت في الربيع العربي خير دليل على ذلك.
ويتفق ستيفن لاتيفكسي ولوكان واي، وهما ينتميان للجيل الثالث من منظري الديمقراطية، مع شميتر وفوكوياما على أن "انحسار الديمقراطية" مجرد خدعة وأسطورة، وأن المشكلة لا تكمن في وجود انحسار من عدمه، ولكن في كيفية اعتبار أن دولة ما أصبحت ديمقراطية أم لا. فهما يشككان أصلا في أن دولاً، مثل دول المعسكر الشرقي، قد تحولت نحو الديمقراطية أصلا، أو بالطريقة التي ينبغي أن تكون عليها الديمقراطية. بل الطريف أنهما يجادلان بأنه لو استخدمنا معيار "بيت الحرية"، فإن الديمقراطية قد انتعشت خلال العقدين الأخيرين، وليس العكس.
على الجانب الآخر من الصورة، يقف كل من لاري دايموند وتوماس كراوثور، واللذان ينافحان بأن العالم دخل مرحلة انحسار ديمقراطي مضطرد منذ عام 2006، وذلك نتيجة ارتكاس بعض البلدان الناشئة ديمقراطياً، وتراجعها عن ذلك لصالح أنظمة سلطوية صاعدة، كما الحال في بعض البلدان الأفريقية، وكذلك بلدان الشرق الأوسط. فمثلا يجادل دايموند بأن حوالي 29% من الديمقراطيات في العالم تراجعت، كي تصبح بلدانا سلطوية بدرجات مختلفة. ويستند دايموند إلى أرقام مختلفة من "بيت الحرية" وغيره، من أجل المحاججة بتراجع مستوى الحريات كأحد مؤشرات قياس الديمقراطية. في حين يقول كراوثور إن كثيرا من بلدان العالم تبدو عالقة في مساحة رمادية gray zone ما بين الديمقراطية والسلطوية. وهو ما يجعل مسألة قياس مدي نجاح التجربة أو إخفاقها أمراً مهما. ويعد كراوثور من أهم الذين انتقدوا مقولات الانتقال الديمقراطي، وانتقدوا طريقة فهم الباحثين لهذه المقولات، والتعاطي معها. وله مقال بعنوان "نهاية البراديم الديمقراطي" قبل حوالي عقدين. وهو يرى أن برامج المساعدات التي يجرى تقديمها لبعض البلدان الناشئة ديمقراطياً تلعب دوراً سلبياً في مسألة دعم الديمقراطية، وكثيراً ما يدلل على ذلك من خلال استحضار بعض التجارب الدولية، مثل مصر.
كل هذه الأفكار والآراء تم نشرها في مجلة "الديمقراطية" في عام 2014، لكنها تحولت إلى كتاب، نشرته دار نشر جامعة هوبكنز قبل حوالي عامين، وفيها حوار نقدي عميق بين أهم منظري الديمقراطية والانتقال الديمقراطي، عنوانه "هل الديمقراطية في تراجع؟"، حرّره دايموند ومارك بلاتنر. وهو كتاب جدير بالقراءة والتأمل، ليس فقط بسبب القيمة الأكاديمية والمعرفية والبحثية للمشاركين فيه فحسب، وإنما لأهمية النقاط والأفكار التي تناولها، والتي هي بحاجة إلى وقت آخر لتفكيكها، والاشتباك معها بحثياً ومعرفياً.
وعلى مدار الأعوام الثلاثة الأخيرة، دار نقاش واسع بشأن مسألة تراجع الديمقراطية وانحسارها بين خبراء العلوم السياسية وأساتذتها، خصوصا المهتمين بالمسألة الديمقراطية، أمثال المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما، وأستاذ العلوم السياسية فيليب شميتر، المتخصص في مجال التحول الديمقراطي، ونظيريه لاري دايموند وتوماس كراوثور، ولكل منهم باع طويل في حقل الدراسات الديمقراطية، لكنهم اختلفوا بشأن ما إذا كانت الديمقراطية في تراجع أم لا. فبينما يري فوكوياما وشميتر أن المسألة ليست تراجعا بقدر ما هي ضعف في أداء الحكومات المنتخبة، وعدم قدرتها على الاستجابة لمطالب ناخبيها. وحجتهم في ذلك أن الطلب على الديمقراطية والحرية يتزايد، خصوصا في بلدان العالم الثالث التي تعاني من أنظمة حكم سلطوية، والمشكلة في فشل الأنظمة الجديدة في تحقيق وعود الديمقراطية. في حين أن أداء الديمقراطية في أوروبا الغربية تراجع لأسباب اقتصادية ومالية بالأساس، وليس لوجود عيب في الديمقراطية ذاتها.
وهنا ينافح فوكوياما، على سبيل المثال، بالقول إن ثمة ثلاثة أبعاد مهمة لقياس الأداء الديمقراطي الجيد، وهي تتعلق باستخدام الدولة للقوة وحكم القانون والمساءلة الديمقراطية. بالنسبة للأولى، فإنه يعني أن الدولة لا بد أن توازن بين استخدامها القوة من جهة، وخضوعها للقانون والرقابة على استخدامها للقوة من جهة أخرى، وذلك حتى لا تتحول إلى دولة خارج القانون أو فوقه. في الوقت نفسه، يرى شميتر أن المشكلة ليست في التراجع الديمقراطي، خصوصا من ناحية العدد، ولكن في طبيعة المقاييس المتبعة في تحديد ما إذا كانت دولة ما قد تراجعت عن الديمقراطية أم لا. وهنا ينتقد شميتر بشدة مقياس "بيت الحرية" الأميركي Freedom House، والذي يعد المقياس الأشهر فيما يتعلق بالحرية والديمقراطية في العالم، ويصدر بذلك تقريراً سنويا معروفاً يصنف الدول ما بين 1- 5 فيما يتعلق بمستوى الحريات المختلفة بها. كذلك يرى شميتر أن السياسات النيوليبرالية التي اتبعتها بعض الدول التي تحولت إلى الديمقراطية حديثاً قد أدت إلى مشكلات عديدة، خصوصا بين الطبقات الفقيرة التي فقدت الثقة بالديمقراطية وبالعملية الانتخابية باعتبارها التي جاءت بهؤلاء الحكام الذين اتبعوا تلك السياسات الاقتصادية. ويرى شميتر أن الحركات الاحتجاجية والانتفاضات التي حدثت في الربيع العربي خير دليل على ذلك.
ويتفق ستيفن لاتيفكسي ولوكان واي، وهما ينتميان للجيل الثالث من منظري الديمقراطية، مع شميتر وفوكوياما على أن "انحسار الديمقراطية" مجرد خدعة وأسطورة، وأن المشكلة لا تكمن في وجود انحسار من عدمه، ولكن في كيفية اعتبار أن دولة ما أصبحت ديمقراطية أم لا. فهما يشككان أصلا في أن دولاً، مثل دول المعسكر الشرقي، قد تحولت نحو الديمقراطية أصلا، أو بالطريقة التي ينبغي أن تكون عليها الديمقراطية. بل الطريف أنهما يجادلان بأنه لو استخدمنا معيار "بيت الحرية"، فإن الديمقراطية قد انتعشت خلال العقدين الأخيرين، وليس العكس.
على الجانب الآخر من الصورة، يقف كل من لاري دايموند وتوماس كراوثور، واللذان ينافحان بأن العالم دخل مرحلة انحسار ديمقراطي مضطرد منذ عام 2006، وذلك نتيجة ارتكاس بعض البلدان الناشئة ديمقراطياً، وتراجعها عن ذلك لصالح أنظمة سلطوية صاعدة، كما الحال في بعض البلدان الأفريقية، وكذلك بلدان الشرق الأوسط. فمثلا يجادل دايموند بأن حوالي 29% من الديمقراطيات في العالم تراجعت، كي تصبح بلدانا سلطوية بدرجات مختلفة. ويستند دايموند إلى أرقام مختلفة من "بيت الحرية" وغيره، من أجل المحاججة بتراجع مستوى الحريات كأحد مؤشرات قياس الديمقراطية. في حين يقول كراوثور إن كثيرا من بلدان العالم تبدو عالقة في مساحة رمادية gray zone ما بين الديمقراطية والسلطوية. وهو ما يجعل مسألة قياس مدي نجاح التجربة أو إخفاقها أمراً مهما. ويعد كراوثور من أهم الذين انتقدوا مقولات الانتقال الديمقراطي، وانتقدوا طريقة فهم الباحثين لهذه المقولات، والتعاطي معها. وله مقال بعنوان "نهاية البراديم الديمقراطي" قبل حوالي عقدين. وهو يرى أن برامج المساعدات التي يجرى تقديمها لبعض البلدان الناشئة ديمقراطياً تلعب دوراً سلبياً في مسألة دعم الديمقراطية، وكثيراً ما يدلل على ذلك من خلال استحضار بعض التجارب الدولية، مثل مصر.
كل هذه الأفكار والآراء تم نشرها في مجلة "الديمقراطية" في عام 2014، لكنها تحولت إلى كتاب، نشرته دار نشر جامعة هوبكنز قبل حوالي عامين، وفيها حوار نقدي عميق بين أهم منظري الديمقراطية والانتقال الديمقراطي، عنوانه "هل الديمقراطية في تراجع؟"، حرّره دايموند ومارك بلاتنر. وهو كتاب جدير بالقراءة والتأمل، ليس فقط بسبب القيمة الأكاديمية والمعرفية والبحثية للمشاركين فيه فحسب، وإنما لأهمية النقاط والأفكار التي تناولها، والتي هي بحاجة إلى وقت آخر لتفكيكها، والاشتباك معها بحثياً ومعرفياً.