تتزايد الضغوط الاقتصادية على المصريين منذ تولي عبدالفتاح السيسي الحكم في يونيو/حزيران من عام 2014، إذ طبقت الحكومة المصرية برنامجا اقتصاديا قاسيا بدأ في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2016، بعد تعويم سعر صرف الجنيه بناء على نصحية من صندوق النقد الدولي، وكشرط لمنحها قرضاً بـ12 مليار دولار، ما رفع الأسعار وكلفة المعيشة لدرجات غير مسبوقة، بعد تفاقم التضخم وخسارة الجنيه المصري نصف قوته الشرائية كما بلغ معدل التضخم 35 في المئة، وهو ما يزيد مرتين ونصف عما كان قبل قرار التعويم، في ظل رفع متوال لأسعار الكهرباء والماء وغاز الطهي.
ورغم بعض الهمهمات الساخطة هنا وهناك، يلاحظ المراقبون للأوضاع المصرية الاقتصادية والسياسية في المرحلة الحالية صمتا يصفه البعض بأنه حالة من المخاض والشحن قد ينتج عنها انفجار شعبي ضخم، بينما لا يتفق آخرون مع ذلك مستشهدين بأقوال تاريخية للجبرتي تتحدث عن "صمت الفلاحين المصريين في مواجهة ذل المحتسب"، كما جاء في في كتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، وأخرى للمقريزي بنفس المعنى تتحدث عن ضعف المصريين في مواجهة ساستهم، كما جاء في كتابه "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار"، لكن هل يشهد التاريخ بصحة تلك الأقوال، وهل ولى بالفعل زمن الانتفاضات الاقتصادية؟
الثورة الأولى
تُشير بردية "صرخة نبي" أو بردية "إيبوير"، المحفوظة بالمتحف الوطني الهولندي للآثار، إلى أن أول ثورة جياع موثقة تاريخيا، هي تلك التي قام بها المصريون على الملك "بيبي الثاني" عام 2281 قبل الميلاد، والتي اندلعت بسبب كثرة الضرائب وتفشي الظلم والفقر في البلاد، فامتنع الناس عن دفع الضرائب ثم خرجوا إلى الشوارع حاملين شعارات "تسقط المحاكم، تسقط المعابد، الكل سواء، الأرض لمن يزرعها، الحرفة لمن يحترفها"، وقاموا بإحراق المنشآت الرسمية والحكومية، واعتدوا على بعض قبور الملوك وأخذوا ما فيها من ثروات.
انتفاضات عديدة في العصر اليوناني
شهدت مصر عدة انتفاضات اقتصادية في العهد البطلمي اليوناني، كما تقول الدكتورة فتحية دبور، كبير باحثي الآثار بمتحف كفر الشيخ وأستاذة الآثار اليونانية والرومانية بكلية السياحة والفنادق بجامعة المنصورة، وكان من أشد تلك الانتفاضات تلك التي وقعت في عهد الملك بطليموس الخامس الذي عُرف باسم أبيفانس أو الإله الظاهر، بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، إذ ارتفعت الضرائب وكثرت الجبايات حتى ضاقت المعيشة على الناس، فخرجوا في انتفاضة على مليكهم تحولت إلى ما يُشبه الحرب الأهلية الدموية في شوارع مدينة الإسكندرية.
وكانت تلك الانتفاضة معول هدم لحكم أسرة البطالمة في مصر، كما تشرح الدكتورة فتحية قائلة "استغلها الملك اليوناني السلوقي في سورية "أنطيوخس الثالث" للتدخل والاستيلاء على مصر وضمها إلى أملاكه، قبل أن تتدخل روما وتجبره على الخروج منها، والاعتراف بوضع مصر الخاص.
عصيان مدني بقيادة أزهرية
في العصر الحديث شهدت مصر عدة انتفاضات بسبب الأوضاع الاقتصادية، منها ما حدث في يوليو/تموز من عام 1795، والتي يرويها الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، قائلا "حينما اشتد الظلم على المصريين واستحدثت ضرائب جديدة بشكل سافر وساد الفقر وأكل الحقوق ونهب الثروات، انتفض الناس بقيادة الشيخ الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر، والذي أمر ببدء عصيان مدني أغلق فيه الناس محالهم وحوانيتهم، ثم خرجوا في مظاهرة كبيرة لبيت الشيخ السادات، واحتشد الناس خلف علماء الأزهر الذين خاطبوا المملوكين الحاكمين إبراهيم بك ومراد بك برد المظالم إلى الناس"، وبالفعل اجتمع الشيوخ مع المملوكين للتفاوض بحضور الوالي العثماني وقيادات الحكومة، والذين تم إجبارهم على توقيع اعتراف برد المظالم إلى الناس وإعادة الأموال التي اغتصبوها والتعهد بإرسال الغلال إلى بلاد الحرمين الشريفين، وكانوا قد امتنعوا عن إرسالها لأهل الحجاز التي كانت بلادهم في كفالة مصر بشكل دائم، وأن يبطلوا الضرائب الجديدة، وألا يفرضوا أي ضرائب بدون وجه حق ودون استشارة العلماء وزعامات الشعب.
يمكن القول إن التاريخ المصري مليء بالانتفاضات والثوارت كما ترى الدكتورة نجلاء مكاوي، الحائزة على شهادة الدكتوراه في التاريخ، والتي أضافت مستدركة "لكن لم تكن الأوضاع الاقتصادية وحدها هي المحرك الوحيد لتلك الانتفاضات، لكنها كثيراً ما شكلت قوة الدفع الرئيسية، لذا فقد خرج المصريون كثيراً رافعين مطالب اقتصادية في مواجهة المحتل والطبقة التقليدية المسيطرة، ومعها مطالب سياسية تتمثل في جلاء المحتل وإسقاط الديكتاتورية، وهو ما كان يسهم في دفع الحركة وتنظيمها، وكان ينعكس بالضرورة في حدود تأثيرها وجود مجال سياسي مفتوح وانتعاش تيارات يمينية ويسارية، والتي حاولت جذب القطاعات الغاضبة من أزمة عامة، كان الوضع الاقتصادي أحد مكوناتها".
منهج الاحتواء والقمع
عقب حركة الضباط الأحرار في يوليو من عام 1952، حافظ عبد الناصر على منهج الاحتواء للشعب كما تضيف الأكاديمية مكاوي، والتي والتي تركز بحوثها على التاريخ الحديث والمعاصر، وتابعت قائلة "حرص النظام في ذلك الوقت على توفير المواد الرئيسية للشعب واستمرار المنح والعطايا الاقتصادية والاجتماعية، مع سيطرة الدولة على أي كيان جامع لمصالح أي طبقة أو فئة اجتماعية، وخطاب قومي عالي الصوت في مواجهة الغرب الإمبريالي، فكان على الناس أن توحد طاقاتها وصفوفها من أجل المعركة الوطنية والتنمية، لبناء دولة مستقلة قوية، وذلك سواء رضاءً، أو كرهًا، فالأمر لم يقتصر على الاحتواء، بل بموازاة قمع ممنهج وإغلاق للمجال السياسي، ولذلك لا نجد خلال عهد عبد الناصر أي احتجاج شعبي واسع رفع مطالب اقتصادية، حتى جاءت انتفاضة 1977 في وجه السادات الذي اتبع سياسات تحررية ضغطت بشدة على الطبقات التي لم تحصل على كثير مما انتظرته من رخاء".
تلك الانتفاضة التي لم تكن مجرد غضب جماهيري عشوائي انفجر فقط لزيادة أسعار السلع الرئيسية، في رأي الباحثة مكاوي إذ تراها انتفاضة على السياسات الاقتصادية عمومًا، وعلى احتكار السلطة القرار وآليات فرضه، وعلى القمع الذي انتهجته السلطة.
أما عن الوضع الحالي فتقول مكاوي إن مصر اليوم تشهد حالة شديدة السوء، حيث لا دور للدولة ولا حريات سياسية ولا قضية وطنية، واشتداد للضغط الاقتصادي، وهذا السكون الحادث ما هو إلا مخاض وشحن للغضب قد ينتج عنه انفجار شعبي ضخم، وقوة هذا الانفجار تتناسب طردياً مع قوة الضغط الذي تفرضه السلطة على الناس الذين لم يشهدوا مثله في أي فترة في العصر الحديث، لا في عهد مبارك ولا غيره.