ظهر الزعيم القومي الاسكتلندي، ألكس سلموند، صباح أمس الجمعة، وقد غمرت الهزيمة كل تقاسيم وجهه، ليعلن بصوت خافت أنه يعترف بالهزيمة، داعياً الاسكتلنديين إلى العيش في "اسكتلندا واحدة" ضمن المملكة المتحدة. في المقابل، من خلف الباب الأسود لمقر رئاسة الوزراء في لندن، أطل رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون وقد غمر النصر كل تقاسيم وجهه، ظهر ليبارك للاسكتلنديين خاصة، ولكل البريطانيين، بـ"النصر" وبالمحافظة على اتحادهم وعلى المملكة المتحدة، داعياً الجميع إلى التوحد من أجل بريطانيا واحدة موحدة يتعايش فيها الجميع تحت ظلال قيم العدل والمساواة.
وعلى غرار قادتهم، ظهر الاسكتلنديون، ممن صوتوا لصالح الانفصال عن بريطانيا، وقد تقبلوا الهزيمة بكل روح رياضية، من دون توتر أو تعصب. وبالمقابل خرج أنصار الاتحاد، الذين صوتوا ضد الاستقلال، للاحتفال بالنصر، من دون شماتة أو بغضاء، بل بروح ارتقت فوق كل الخلافات. هي معركة ديمقراطية، كادت أن تقرر مصير أمتين، ومع ذلك لم نرَ حواجز تقام في الشوارع، ولم نرقب حرق إطارات أو سيارات أو مراكز حزبية، لم يحدث أي اعتداء على أي مرفق عام أو ملكية خاصة، ولم نسمع دعوات للاعتصام، ولم يخرج علينا مشكك في النتائج، أو مناد للعصيان.
استفتاء تاريخي، بل ومفصلي، حضر فيه الجميع، سياسيون وفنانون ورياضيون ومثقفون وإعلاميون، شارك فيه الأغنياء والفقراء، الشيب والشباب، الرجال والنساء. غائب واحد فقط لم نره، لم نلحظه: إنه العسكر. ففي ظلال الديقراطيات الحقيقية، تكون القوة للناخب بصوته، ويكون الحسم لصندوق الاقتراع بصمته، والكلمة الفصل لعامة الناس، لا لذوي الرتب والنياشين. هنا لا مكان للدبابات أو حتى خراطيم المياه الساخنة، أو العصي الغليظة المكهربة، هنا لا مكان للتجريح والتشهير، هنا لا مكان لتكميم الأفواه ولكم الوجوه، هنا الفصل فقط بالحجة والبرهان والجدل "بالحسنى".
صبيحة الإعلان عن نتائج الاستفتاء التاريخي، خرج الجميع في المملكة المتحدة، من أقصى جزيرة "كانا" الاسكتلندية، إلى شواطئ مدينة "ساوث هامتون" الإنجليزية، وحتى من مزارع كاردف في ويلز، وصولاً إلى مصانع بلفاست في إيرلندا الشمالية، وقد جمعتهم كلمة واحدة، هي "المستقبل". لن ينشغل البريطانيون طويلاً بما حدث، لن يتجمدوا عند قاع التاريخ، لن يسلبهم "ضبع الانقسام" القدرة على التفكير والحركة، بل هم مستعدون لليوم التالي للاستفتاء.
أليكس سلموند، وبعد أن اعترف بالهزيمة، ذكّر كاميرون بالوعود التي قطعها خلال الأيام الماضية، وقد تعهد بمنح اسكتلندا المزيد من السلطات الذاتية في الكثير من نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية. ديفيد كاميرون في المقابل، لم تأخذه نشوة النصر إلى إثم التنكر لوعوده، بل خرج إلى الناس متعهداً من جديد بأن الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تعهد بها للاسكتلنديين قائمة ونافذة وحكومته ملتزمة بها، بل إنه أضاف أن تصويت أكثر من مليون ونصف المليون مواطن اسكتلندي لصالح الانفصال، يشكل حافزاً قوياً لمراجعة آليات العمل السياسي والمؤسساتي داخل الاتحاد البريطاني بكامل مكوناته الجغرافية والسكانية.
بلا شك، كان في تجربة "استفتاء اسكتلندا" تأكيد على تجذّر الديمقراطية البريطانية، وعلى أهمية الاحترام الحقيقي للرأي الآخر، حتى عندما يتعلق الأمر باستحقاق تاريخي ومصيري بحجم وأهمية استفتاء اسكتلندا.