تكشف استعدادات الانتخابات اللبنانية النيابية المُفترض إجراؤها في السادس من مايو/أيار المُقبل، أنها استحقاق سياسي بلا سياسة، وهو ما يظهر أكان في البرامج أو في التحالفات. من خطابات المرشحين وصولاً إلى التحالفات العجيبة التي يفترض أن تعلن رسمياً ليل 26-27 مارس/آذار الحالي، يظهر كم أن هذه الانتخابات تجري وكأنها استحقاق بلدي محلي، وليست اقتراعاً نيابياً، ذلك أن الغلبة التي يفرضها حزب الله في الداخل، والمترجمة بإيصال حليفه ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وفرض سقف منخفض للنقاش السياسي المسموح في لبنان، بقوة السلاح والتهديد غالباً، لم تترك مجالاً لمناقشة ملفي العلاقات الخارجية وسيادة الدولة وسلاح حزب الله مثلاً إلا في ما ندر. وتعطي التحالفات الهجينة التي قد لا تحصل في أي بلد في العالم إلا في لبنان، فكرة واضحة عن أن الهدف من الانتخابات هو مجرد تقاسم المقاعد النيابية الـ128 لا صراع فيه بين مشروعين سياسيين متنافسين أو أكثر، يسعى كل منهما ليكون غالبية تعارضها أقلية.
عجنت الأحداث المحلية والإقليمية التي طرأت على الشرق الأوسط طوال العقد الماضي التحالفات السياسية في لبنان. وخرجت الأحزاب من تحالفاتها التي صاغتها على أساس انقسام 8 و14 آذار تحت عناوين الحرية والسيادة والاستقلال ورفض سلاح حزب الله ومعارضة النظام السوري بالنسبة للطرف الثاني، وإبقاء لبنان جزءاً لا يتجزأ من المحور الإيراني بالنسبة للطرف الأول. وباتت التحالفات تُقاس بحجم الدوائر الانتخابية الـ15 التي نصّ القانون الانتخابي الجديد عليها. هكذا يمكن قراءة تحالف "التيار الوطني الحر" مع "تيار المُستقبل" في عدد من الدوائر الانتخابية رغم انتماء الطرفين، نظرياً، إلى نهجين سياسيين مُتعارضين.
كما يمكن، ومن نفس الزاوية، قراءة تشكيل لائحة مُشتركة تجمع ميشال معوّض نجل الرئيس اللبناني الراحل، رينيه معوضّ، مع "التيار الوطني الحر"، في شمالي لبنان، وهما أشد الخصوم، وذلك رغم تحالف التيار مع النظام السوري، الذي اتهمه آل معوّض باغتيال الرئيس عام 1989. في السياسة اللبنانية كل شيء ممكن على ما يبدو. حتى إن الحديث عن تحالف "الوطني الحر" مع الجناح اللبناني للإخوان المسلمين (الجماعة الإسلامية) مطروح على طاولة النقاش في أكثر من دائرة انتخابية، وخصوصاً في دائرة (صيدا - جزين) الجنوبية التي يحتاج فيها الطرفان إلى أصوات بعضهما بعضاً لمنافسة لائحة "تيار المستقبل"، وأيضاً في دائرة عكّار شمالي البلاد. والطرفان (التيار والجماعة) خصمان سياسيان لا يجمعهما أي طرح سياسي أو اقتصادي بطبيعة الحال. فقط في لبنان، تتحالف الأحزاب "على القطعة"، أي تتفق في دائرة انتخابية، وتتنافس في دائرة ملاصقة لها، لأن أساس التحالف أو الخصومة يبقى الاتفاق أو الاختلاف على عدد المقاعد النيابية لكل طرف، لا الخطاب السياسي.
وقد لقيت تصريحات الحزب امتعاضاً شعبياً، حتى أن بعضهم تحدّث عن نفاق من يمتلك قدرة القتال في سورية والعراق واليمن، ويدّعي العجز عن تحقيق مطالب إنمائية لجمهوره عبر نوابه ووزرائه المُشاركين في الحكومة. ولم يكن جمهور باقي القوى السياسية أقلّ حدّة في التعبير عن حالة السخط من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة في لبنان، ما عدا أجزاء من الجمهور الذي استجاب للخطاب الطائفي عالي اللهجة الذي اعتمده بعض المسؤولين، كوزير الخارجية ورئيس "التيار الوطني الحر" وصهر رئيس الجمهورية، جبران باسيل، الذي وصف رئيس مجلس النواب نبيه بري، خلال لقاء انتخابي بـ"البلطجي الذي يجب كسر رأسه".
وعلى الضفة الأخرى من نهر التناقضات اللبنانية، يستحيل التحالف حالياً بين تيار الوزير السابق وئام وهاب، وحزب الوزير الحالي طلال إرسلان، رغم الانتماء السياسي والطائفي الواحد لكلا الرجلين. وهو ما يؤكد اعتماد القوى السياسية لبراغماتية مُتطرفة تسمح لها بالتحالف في دوائر مُحددة والتنافس في دوائر أُخرى من دون أدنى اعتبار لأثر ذلك على جمهورها، الذي آمن يوماً بالعناوين السياسية التي رفعتها. عملية يتوقع مراقبون أن تؤدي إلى حسم نتيجة أكثر من نصف المقاعد النيابية البالغة 128 مقعداً بمُجرّد إنهاء تسجيل اللوائح الانتخابية في وزارة الداخلية فجر 27 مارس الحالي. وحتى ظهر أمس الأربعاء، لم يتم إنجاز أي لائحة انتخابية كبيرة فعلياً، وهو ما يعكس حدة الصراع على تقاسم المقاعد بين الحلفاء ــ الخصوم.
يُشكّل احتكار "حزب الله" للسياسة الخارجية والأمنية ــ العسكرية اللبنانية أحد أبرز الأسباب لموت الحياة السياسية في لبنان، وتحديد سقف منخفض جداً للعمل السياسي، وهو القادر دوماً على تغيير المعادلة السياسية من خلال مجموعة خيارات لجأ إليها خلال السنوات الماضية من تعطيل مجلس النواب والحكومة إلى الأعمال الأمنية في الداخل اللبناني، إلى تهديدات أمينه العام حسن نصر الله برفع أصبعه الشهير. ومع وصول الكوادر العسكرية للحزب إلى سورية والعراق واليمن، تُرك للدولة اللبنانية أمر معالجة التبعات السياسية والاقتصادية لخياراته. وكان التلويح بإعادة احتلال أجزاء واسعة من محافظتي بيروت وجبل لبنان، كما حدث في السابع مع مايو/أيار عام 2008 كافياً لصرف نظر معارضي "حزب الله" عن أي مسعى جدي لاحتوائه داخلياً. هكذا خضعت القوى السياسية الكبرى لإرادة الحزب، وأصبح معارضوه خارج المعادلة السياسية. وسهّلت الخلافات الداخلية بين "معارضي" الحزب، إدارته للعملية السياسية بلا منافس، كما ساهمت أيضاً في إضعاف الحياة السياسية لصالح رؤية وإرادة الحزب الواحد.
كما تراجعت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة قبلها عن قرارات رأى الحزب أنها "تهدد بنيته العسكرية". وقد شهدت هذه الفترة المُمتدة من اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري عام 2005 وحتى عام 2013 سلسلة اغتيالات سياسية طاولت معارضي النظام السوري في لبنان، ومهّدت بالدم لتسويات كبيرة حصد "حزب الله" فيها ما عجز عن حصده من خلال عملية الاقتراع الديمقراطي.
ويبقى أن الاتهام الرسمي الوحيد للحزب بالتورط في عملية اغتيال سياسي كان على لسان المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي تُحاكم 4 قياديين من الحزب غيابياً بتهمة قتل رفيق الحريري، بينما تتوجه أصابع الاتهام السياسي في باقي الاغتيالات ومحاولات الاغتيال التي طاولت قياديين في "تيار المستقبل"، و"القوات اللبنانية"، و"حزب الكتائب"، و"الحزب الشيوعي اللبناني"، و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، وقادة أمنيين وإعلاميين، إلى النظام السوري وحلفائه في لبنان. هكذا تمت كتابة العهد السياسي الجديد المُفرّغ من أي مضمون سياسي في لبنان، وبات مُجرّد إنجاز استحقاق انتخابي بعد 5 سنوات على التأجيل، ووفق قانون طائفي، إنجازاً بارزاً تستند إليه قوى السلطة لطلب الدعم الاقتصادي والسياسي الدولي.