05 نوفمبر 2024
انتخابات مغربية سلسة في سياق معكوس
من بين كل المرشحين في الانتخابات التشريعية التي تجري حملاتها الدعائية منذ 23 من سبتمبر/ أيلول الجاري في المغرب، هناك مرشح أساسي لا يبدو في الصورة: السلاسة الديمقراطية.
ليست الانتخابات المعنية عاديةً، إلا بالقدر الذي ستستطيع البلاد تنظيم استحقاقاتها التشريعية في ظروف "عادية"، باحتمالاتٍ لا استعصاء فيها، يجعل المفاجأة اللامنطقية قابلة للتحقق.
بلغة أخرى، تعد انتخابات 7 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل شوطاً إضافيا في زمن التحولات المغربية التي قادتها رياح "الربيع العربي".
لنعد قليلا إلى الوراء: عندما اندلعت عواصف الربيع العربي، لم يكن الشارع المغربي في منأى عنها، واستطاعت تيارات التغيير المحلية أن تخرج بشعاراتٍ فائقة الدقة، لكنها موضوعية وتاريخية، لم تضع النظام السياسي المغربي تحت طاءلة التنكير. وكان لافتاً أن القوى التي خرجت إلى الشارع، كلها، اللهم حزب أو حزبان، من خارج المنظومة الحزبية المغربية، أي قوى من خارج التأطير القانوني المعروف، ومنها التيارات الوارثة للجمهورية بلكنتها اللينينية، أو الباحثة عن الخلافة على منهاج النبوة، ومنها "العدل والإحسان" والقوى الاشتراكية التقليدية والجديدة، وكان سقف عملها لا يتجاوز مطلب الملكية البرلمانية سقفاً تاريخياً لتحقيق الطفرة المنتظرة في النظام.
وكان لافتا ثانياً أن جل الأحزاب السياسية، اللهم حزب أو اثنان، قد ندّدا بالخروج إلى الشارع، وتوالت البيانات الصادرة عن القيادات السياسية لهذه الأحزاب، في الأيام السابقة ليوم 20 فبراير/ شباط الذي تداعى إليه النشطاء الثوريون الفيسبوكيون.
ومن مفارقات الربيع المغربي، أن القمة، في شخص ملك البلاد، تجاوبت معه، في أقل من شهر، إذْ جاء خطاب 9 مارس/ آذار الموالي حاملا طفرةً مهمةً للغاية، في سياق تطور النظام والعمل السياسي، باعتبار أن جل المطالب الفبرايرية كانت سياسةً، تدعو إلى إعادة النظر في طريقة اشتغال النظام السياسي.
وجاء التصويت على الدستور يؤكد تحولاً نوعياً في الاستشارة، عبر تكوين لجنةٍ موسعةٍ وفتح حوار وطني واسع، مع كل المكونات السياسية والاجتماعية والحقوقية والمدنية ..إلخ، أفضت إلى نصٍّ حقق شبه إجماع حول مضامينه. وظهرت، لأول مرة في تاريخ الدساتير المغربية، عبارة "ملكية برلمانية"، كما طالب بها الشارع العام.
وفي الوقت نفسه، كانت امتدادات الربيع داخل منظومة الدولة تتخذ شكلاً جديدا: ولعل الأساسي الذي حصل أن تيار الإسلام السياسي، ممثلاً في حزب العدالة والتنمية، والذي ظل يدعو إلى إصلاحٍ، تسبقه أولاً عملية "تطبيع" لوجوده في الحقل السياسي الرسمي، هو الذي فاز بانتخابات أول دستور إصلاحي شامل.
بلغةٍ أخرى، كانت الأولوية لدى الحزب الذي يقوده عبد الإله بنكيران هي تطبيع العلاقة مع الملكية ومع الملك، قبل أية إصلاحات، وقد حققت انتخابات 25 نوفمبر هذا المبتغى.
وتبين أن القوى التي كانت تسعى الى الإصلاحات، فريقان: مؤسساتي، حزبي منتظم، وآخر غير مؤسساتي. وقد خرج الأول خاسراً في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، على الرغم من أنه ربح معركة الإصلاحات. والفريق الثاني لم يدخل منظومة الفعل السياسي المؤسساتي، لأنه لم يصل إلى البرلمان، حلبة الصراع الجديدة حول معنى الإصلاح، لغياب "تمفصل" بينه وبين منطومة العمل المؤسساتي (أحزاب تعبر عنه مثلاً…)!
والخلاصة أن قوى الإصلاح، سواء في الشارع أو في المنظومة الشرعية، ظلت من دون امتداداتٍ في الحقل الرسمي، برلماناً وحكومةً.
وحقق التيار الإسلامي "برنامجه" السياسي، من خلال نجاحه في دخول مربع الحكم، في ظروف جيدة وجديدة، لم يتمتع بها أيٌّ كان من قبل، والحال أنه لا يمكن لأي أحدٍ من تجاهل حقيقة أن الوصفة التي عصفت بتيارات الإسلام الحاكم كانت مغريةً لنخبٍ عديدة، وقد سبق لعبد ربه الضعيف أن شارك في برنامج تلفزي، في عز الحديث عن مراجعة نتائج الانتخابات التي جرت، ووصل بموجبها التيار السياسي للإسلام الحزبي إلى الحكم، ورافع ضد هذه النزعة، ما يعني أنها كانت حاضرةً كهاجس، وأيضا كمشروع، غير أن النسق السياسي المغربي استطاع، هذه المرة أيضا، أن ينقذ نفسه من الوصول إلى الاستحالة السياسية، والسقوط في الحلول القصوى، واستمرت التجربة إلى نهايتها، في عمليةٍ نوعيةٍ للحفاظ على السلاسة الحكومية.
من المحقّق أن سياق الانتخابات الحالية تغيّر كثيراً، والحزب الذي قاد الحكومة لم يكن خلالها في كامل قدرتة الإصلاحية، وفقد غير قليل من عذريته، ومما يسميه "التميز الأخلاقي"، كما أن الشعار الذي رفعه في انتخابات 2011، أي "محاربة الفساد والاستبداد"، أسقط نفسه، وتقلص إلى مواصلة الإصلاح، في حين تحول الاستبداد في خمس سنين إلى مجرد … "تحكّم" يجرّ التوتر أكثر مما يعبئ النخب؟ كما أن الانتخابات الحالية ستجري وقد أصبحت قراءة "الربيع العربي" سلبيةً، بحيث أصبح هو عنوان الخراب، وتفكيك الدول، ومقدمةً لزرع الاقتتال وترويع الشعوب. وهو ما قد يضع المستفيد الأول منه (العدالة والتنمية) في زاويةٍ ضيقةٍ إزاء نخبةٍ ما زالت تصر على عدم التطبيع مع وجوده في المربع القريب للسلطة.
وكان لافتاً أن القراءة الرسمية الحالية تسقط عن الربيع الاندفاعة الديمقراطية، لأنها ترى أن المغرب نهج "إصلاحاً سيادياً، تعوَّدَه باستمرار، وسلكه منذ 1989، عندما قرأ تقلبات العالم وقتها، وسقوط جدار برلين وموجة الانهيارات الكبرى لأنظمةٍ شموليةٍ في كل القارات، قراءةً وطنيةً جعلته يدخل في دورة سياسية جديدة، مع الملك الراحل الحسن الثاني، كان عنوانها الانفراج السياسي والشروع في إصلاحات دستورية (1992/ 1996) وإعداد التناوب الأول الذي قاد الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي إلى الوزارة الأولى، بعد معارضة أربعة عقود.
تفاصيل أخرى كثيرة، لا بد من أنها تؤثث المشهد الانتخابي الآن، كما أن التوقعات تهز الشارع المغربي، من أعلاه إلى سافله. لكن، من المحقق أن "السلاسة" الديمقراطية هي المرشح الأساس الذي ينتظر الجميع أن يفوز، من دون أشباحٍ ماضويةٍ، أو ترتيباتٍ خارج الصناديق، لأن الأمر يتعلق، في نهاية المطاف، بمصير الديمقراطية ومصير بلادٍ ما زالت تعتمد على صورتها النظيفة في الترافع من أجل الوحدة الوطنية.
ليست الانتخابات المعنية عاديةً، إلا بالقدر الذي ستستطيع البلاد تنظيم استحقاقاتها التشريعية في ظروف "عادية"، باحتمالاتٍ لا استعصاء فيها، يجعل المفاجأة اللامنطقية قابلة للتحقق.
بلغة أخرى، تعد انتخابات 7 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل شوطاً إضافيا في زمن التحولات المغربية التي قادتها رياح "الربيع العربي".
لنعد قليلا إلى الوراء: عندما اندلعت عواصف الربيع العربي، لم يكن الشارع المغربي في منأى عنها، واستطاعت تيارات التغيير المحلية أن تخرج بشعاراتٍ فائقة الدقة، لكنها موضوعية وتاريخية، لم تضع النظام السياسي المغربي تحت طاءلة التنكير. وكان لافتاً أن القوى التي خرجت إلى الشارع، كلها، اللهم حزب أو حزبان، من خارج المنظومة الحزبية المغربية، أي قوى من خارج التأطير القانوني المعروف، ومنها التيارات الوارثة للجمهورية بلكنتها اللينينية، أو الباحثة عن الخلافة على منهاج النبوة، ومنها "العدل والإحسان" والقوى الاشتراكية التقليدية والجديدة، وكان سقف عملها لا يتجاوز مطلب الملكية البرلمانية سقفاً تاريخياً لتحقيق الطفرة المنتظرة في النظام.
وكان لافتا ثانياً أن جل الأحزاب السياسية، اللهم حزب أو اثنان، قد ندّدا بالخروج إلى الشارع، وتوالت البيانات الصادرة عن القيادات السياسية لهذه الأحزاب، في الأيام السابقة ليوم 20 فبراير/ شباط الذي تداعى إليه النشطاء الثوريون الفيسبوكيون.
ومن مفارقات الربيع المغربي، أن القمة، في شخص ملك البلاد، تجاوبت معه، في أقل من شهر، إذْ جاء خطاب 9 مارس/ آذار الموالي حاملا طفرةً مهمةً للغاية، في سياق تطور النظام والعمل السياسي، باعتبار أن جل المطالب الفبرايرية كانت سياسةً، تدعو إلى إعادة النظر في طريقة اشتغال النظام السياسي.
وجاء التصويت على الدستور يؤكد تحولاً نوعياً في الاستشارة، عبر تكوين لجنةٍ موسعةٍ وفتح حوار وطني واسع، مع كل المكونات السياسية والاجتماعية والحقوقية والمدنية ..إلخ، أفضت إلى نصٍّ حقق شبه إجماع حول مضامينه. وظهرت، لأول مرة في تاريخ الدساتير المغربية، عبارة "ملكية برلمانية"، كما طالب بها الشارع العام.
وفي الوقت نفسه، كانت امتدادات الربيع داخل منظومة الدولة تتخذ شكلاً جديدا: ولعل الأساسي الذي حصل أن تيار الإسلام السياسي، ممثلاً في حزب العدالة والتنمية، والذي ظل يدعو إلى إصلاحٍ، تسبقه أولاً عملية "تطبيع" لوجوده في الحقل السياسي الرسمي، هو الذي فاز بانتخابات أول دستور إصلاحي شامل.
بلغةٍ أخرى، كانت الأولوية لدى الحزب الذي يقوده عبد الإله بنكيران هي تطبيع العلاقة مع الملكية ومع الملك، قبل أية إصلاحات، وقد حققت انتخابات 25 نوفمبر هذا المبتغى.
وتبين أن القوى التي كانت تسعى الى الإصلاحات، فريقان: مؤسساتي، حزبي منتظم، وآخر غير مؤسساتي. وقد خرج الأول خاسراً في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، على الرغم من أنه ربح معركة الإصلاحات. والفريق الثاني لم يدخل منظومة الفعل السياسي المؤسساتي، لأنه لم يصل إلى البرلمان، حلبة الصراع الجديدة حول معنى الإصلاح، لغياب "تمفصل" بينه وبين منطومة العمل المؤسساتي (أحزاب تعبر عنه مثلاً…)!
والخلاصة أن قوى الإصلاح، سواء في الشارع أو في المنظومة الشرعية، ظلت من دون امتداداتٍ في الحقل الرسمي، برلماناً وحكومةً.
وحقق التيار الإسلامي "برنامجه" السياسي، من خلال نجاحه في دخول مربع الحكم، في ظروف جيدة وجديدة، لم يتمتع بها أيٌّ كان من قبل، والحال أنه لا يمكن لأي أحدٍ من تجاهل حقيقة أن الوصفة التي عصفت بتيارات الإسلام الحاكم كانت مغريةً لنخبٍ عديدة، وقد سبق لعبد ربه الضعيف أن شارك في برنامج تلفزي، في عز الحديث عن مراجعة نتائج الانتخابات التي جرت، ووصل بموجبها التيار السياسي للإسلام الحزبي إلى الحكم، ورافع ضد هذه النزعة، ما يعني أنها كانت حاضرةً كهاجس، وأيضا كمشروع، غير أن النسق السياسي المغربي استطاع، هذه المرة أيضا، أن ينقذ نفسه من الوصول إلى الاستحالة السياسية، والسقوط في الحلول القصوى، واستمرت التجربة إلى نهايتها، في عمليةٍ نوعيةٍ للحفاظ على السلاسة الحكومية.
من المحقّق أن سياق الانتخابات الحالية تغيّر كثيراً، والحزب الذي قاد الحكومة لم يكن خلالها في كامل قدرتة الإصلاحية، وفقد غير قليل من عذريته، ومما يسميه "التميز الأخلاقي"، كما أن الشعار الذي رفعه في انتخابات 2011، أي "محاربة الفساد والاستبداد"، أسقط نفسه، وتقلص إلى مواصلة الإصلاح، في حين تحول الاستبداد في خمس سنين إلى مجرد … "تحكّم" يجرّ التوتر أكثر مما يعبئ النخب؟ كما أن الانتخابات الحالية ستجري وقد أصبحت قراءة "الربيع العربي" سلبيةً، بحيث أصبح هو عنوان الخراب، وتفكيك الدول، ومقدمةً لزرع الاقتتال وترويع الشعوب. وهو ما قد يضع المستفيد الأول منه (العدالة والتنمية) في زاويةٍ ضيقةٍ إزاء نخبةٍ ما زالت تصر على عدم التطبيع مع وجوده في المربع القريب للسلطة.
وكان لافتاً أن القراءة الرسمية الحالية تسقط عن الربيع الاندفاعة الديمقراطية، لأنها ترى أن المغرب نهج "إصلاحاً سيادياً، تعوَّدَه باستمرار، وسلكه منذ 1989، عندما قرأ تقلبات العالم وقتها، وسقوط جدار برلين وموجة الانهيارات الكبرى لأنظمةٍ شموليةٍ في كل القارات، قراءةً وطنيةً جعلته يدخل في دورة سياسية جديدة، مع الملك الراحل الحسن الثاني، كان عنوانها الانفراج السياسي والشروع في إصلاحات دستورية (1992/ 1996) وإعداد التناوب الأول الذي قاد الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي إلى الوزارة الأولى، بعد معارضة أربعة عقود.
تفاصيل أخرى كثيرة، لا بد من أنها تؤثث المشهد الانتخابي الآن، كما أن التوقعات تهز الشارع المغربي، من أعلاه إلى سافله. لكن، من المحقق أن "السلاسة" الديمقراطية هي المرشح الأساس الذي ينتظر الجميع أن يفوز، من دون أشباحٍ ماضويةٍ، أو ترتيباتٍ خارج الصناديق، لأن الأمر يتعلق، في نهاية المطاف، بمصير الديمقراطية ومصير بلادٍ ما زالت تعتمد على صورتها النظيفة في الترافع من أجل الوحدة الوطنية.