انتخابات إسطنبول.. ماذا بعد؟

28 يونيو 2019

أنصار لأكرم أوغلو في اسطنبول يحتفلون بفوزه (23/6/2019/Getty)

+ الخط -
في جو يسوده التخندق والانقسام المجتمعي والاصطفاف الشعبي الحاد، توجّه الناخبون الأتراك إلى صناديق انتخابات الإعادة لرئاسة بلدية إسطنبول الكبرى، وكأنهم ذاهبون إلى انتخاب النظام الرئاسي أو البرلماني التركي، وليس مجرد اختيار رئيس بلدية. وأسباب كثيرة وعوامل عديدة جعلت هذه الانتخابات تخرج من كونها انتخابات محلية، ولم تعد انتخاب المرشح الذي سيقدم البرامج الخدمية الأفضل لسكان المدينة، ولم يعد الناخب يناقش البرامج الانتخابية والوعود والإصلاحات التي يتقدم بها المرشحون، فقد تحولت هذه الانتخابات إلى شيء أكبر من ذلك بكثير، وباتت تحمل معاني ومفاهيم كثيرة.
رسخت سيرة الرئيس التركي، رجب أردوغان، وطريق نجاحه الذي بدأ بقيادة إسطنبول لمّا ترأس مجلس بلديتها، قناعة لدى ناخبين كثيرين أن من يفوز بقيادة إسطنبول ينجح بقيادة تركيا، وطريق الوصول إلى رئاسة تركيا يبدأ من إسطنبول. كما أن الحملة الانتخابية التي اختارها حزب العدالة والتنمية (الحاكم) في الجولة الأولى، وتركيز رئيس الجمهورية على مدينة إسطنبول، والتذكير دائماَ بأن من يخسرها سيخسر تركيا، بالإضافة إلى أهمية إسطنبول الحقيقية الاقتصادية والثقافية والسياحية والسكانية، جعل لهذه الانتخابات مغزىً مغايرا ونكهة مختلفة. تضاف إلى ذلك رمزية إسطنبول المعنوية الخاصة بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، كونها مدينة محمد الفاتح، ومخزن أصوات الحزب، وسيطرته، والفوز ببلديتها الكبرى منذ 1994، حيث استطاع أردوغان ترؤسها وتحقيق مشاريع وإنجازات كثيرة فيها، وعلى كل المستويات خلال ربع قرن.
على الرغم من أن "العدالة والتنمية" استطاع حصد أكثر من ثلثي مقاعد مجلس بلدية إسطنبول في الجولة الأولى، و25 بلدية من أصل 39 بلدية، بدا كأنه الخاسر، لأنه خسر رئاسة بلدية 
إسطنبول الكبرى، لرمزية هذا المنصب، وما يحمله من معان. وربما كانت نتيجة الانتخابات صاعقة بالنسبة لكثيرين، لكنها لم تكن مفاجئة على الإطلاق لكل من يتابع الأجواء الانتخابية والحملات الآنية التي لعبها كل طرف. وكانت استطلاعات الرأي كلها تشير إلى تقدم مرشح المعارضة إمام أوغلو وإلى فوزه. وكان حزب العدالة والتنمية (الحاكم) يعرف هذه الحقيقة، ويتوقعها، نتيجة أخطاء وعوامل كثيرة. نتيجة الانتخابات وإن كانت معروفة من قبل ومتوقعة، لكنها تعتبر زلزالا، ولها هزاتها الارتدادية التي لن تتوقف حتى الانتخابات الرئاسية في العام 2023.
لماذا خسر حزب العدالة والتنمية قلعته الحصينة؟ لأسباب كثيرة وعديدة، منها طول فترة سيطرة الحزب وكثرة الناقدين، والوضع الاقتصادي، والترهل بين كوادر الحزب، وما أصاب أفراده من تغيراتٍ على المستويات، الذهنية والفكرية والنوعية. ولكن هناك عوامل بارزة وآنية حصلت أخيرا، زادت من فارق الأصوات، وساهمت في حصول هذا الزلزال الانتخابي. من أهمها التغير الكبير في الحملة الانتخابية الثانية المناقض للحملة الأولى، حيث اعتمدت الأولى على شعارت التجييش القومية، وتهديد بقاء تركيا والمؤامرة الخارجية على أمن تركيا واقتصادها، بينما تحولت الثانية الى سياسة الهدوء والاحتواء والانفتاح، وهذا يعتبر بمثابة العودة إلى مبادئ الحزب الأولى، ولكن التوقيت جاء بعكس ما تشتهي الأنفس.
ولم يقنع قرار إلغاء نتائج الانتخابات في المرة الأولى المواطن التركي، ولم يستطع حزب العدالة والتنمية شرح عدالته، بل شعر المواطن التركي بأن هناك اعتداء على قراره وصوته، واعتداء على حق الفائز إمام أوغلو، واستطاع الأخير وفريقه الناجح أن يستغلا هذه "المظلومية"، وأن يستثمراها ويبنيا عليها حملتهم الانتخابية، ربما هي السبب الرئيسي الذي جعل النتائج بهذا الفارق الكبير.
وهناك سبب ثالث، كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، تسريب "العدالة والتنمية" رسالة زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، في اللحظات الأخيرة، في محاولة فاشلة لكسب أصوات الكرد، أو على الأقل لثنيهم عن التصويت لإمام أوغلو، وكانت هذه المحاولة صدمة لناخبين كثيرين، القوميين منهم خصوصا.
سيجري حزب العدالة والتنمية الذي عُرفت عنه قدرته وبراعته، تقييم نتائج الانتخابات، وفهم رسائل الناخب التركي، تقييما ومراجعة لمواقف وسياسات كثيرة له. وستكون آثار الزلزال الحقيقية في هذه التغييرات والتحولات، وعلى كل المستويات الحزبية والحكومية والسياسية.. سننتظر ونرى.
46D6AF4E-64D4-44DA-9B73-8B3A5FDAF3A5
46D6AF4E-64D4-44DA-9B73-8B3A5FDAF3A5
مصطفى حامد أوغلو

كاتب تركي

مصطفى حامد أوغلو