تحوّلت اليونان في غضون بضعة أشهر من مجرّد دولة "منبوذة" و"خاضعة" لشروط الاتحاد الأوروبي، إلى دولة قادرة على زعزعة الأسس التي قام عليها الاتحاد. ليل الثلاثاء/الأربعاء، انتهت المهلة المحددة لليونان لسداد قسط الديون المستحق لصندوق النقد الدولي، بقيمة 1.6 مليار يورو، بعدما أعلنت أثينا أنها غير قادرة على السداد، وطالبت بخطة إنقاذ جديدة تمتدّ لعامين، وسط حالة رعب انتابت الأسواق المالية، في منطقة اليورو وفي الولايات المتحدة.
نجحت حكومة "سيريزا" اليسارية الراديكالية في اليونان، منذ انتخابها في يناير/كانون الثاني الماضي، في دفع الأمور نحو حدّها الأقصى في الصراع مع الاتحاد الأوروبي والمجموعات الدائنة. حاول الحزب الخروج من حالة الركود التي تشهدها أثينا، والقيام بخطوة تُحرّك الوضع برمّته للخروج بحلول منطقية بالنسبة لبلاد الإغريق. كان لا بدّ لحلّ ما للأزمة المالية التي تشهدها البلاد منذ خمس سنوات. حلّ لا يأتي عن طريق الديون وتمويلها، ولا عن طريق خطط تقشفية، بالنسبة لليسار الحاكم، وهو ما رضخت له الحكومات السابقة. وقد أثبتت السنوات الماضية أن أي حلّ يُقلّص من التقديمات الاجتماعية للشعب اليوناني، سيؤدي حتماً إلى تحطيم البنية الاقتصادية بالكامل للسوق اليونانية. وبدلاً من أن تفي أثينا بالتزاماتها المالية يُصبح لزاماً عليها معالجة الإشكاليات الداخلية في البلاد، مع ما يعنيه ذلك من حالات توتر ولاحقاً وضع أمني غير مستقرّ.
قد تكون فكرة الاستفتاء بحدّ ذاتها سيفاً ذا حدّين بالنسبة لـ"سيريزا"، إما أن يُسنده الشعب اليوناني، فيقود الحزب مسيرة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وإما يخذله الشعب مؤيداً الشروط الأوروبية التقشفية، ويترك خيار قبول الشروط الأوروبية اليونان في الاتحاد الأوروبي، لكنها ستبقى "تلك الدولة الصغيرة التي يتحكّم بها كبار القارة". تسيبراس أكد، بطريقة غير مباشرة، أنه لن يشرف على إدارة الخطة التقشفية في حال وافق عليها الشعب، أي أنه سيُقدّم استقالته. ما يعني أن مرحلة ما بعد الاستفتاء ستشهد "نقلة نوعية" في الصراع بين اليونان والدول الدائنة.
اقرأ أيضاً: اليونان تطلب أموالاً أوروبية جديدة بعد تعثرها في السداد
ومع ابتعاد الأميركيين، علناً على الأقلّ عن الأزمة اليونانية، واعتبارهم على لسان الرئيس باراك أوباما، أن "البلاد لن تتأثر بالأزمة"، انطلق الدولار وانخفضت أسعار الذهب والمشتقات النفطية، في دلالة على حراجة الوضع اقتصادياً. يدرك "سيريزا" أنه في موقف وسطي، بين ضرورة الخروج بنتائج ناجعة للأزمة أو الخضوع لخيارات اقتصادية قد تُبقي على اليونان أسيرة مواقف الدول الصناعية في الغرب الأوروبي.
لذلك، سعى تسيبراس إلى استكشاف آفاق جديدة تُتيح له المواجهة، متجهاً إلى روسيا التي تعاني بدورها من أزمة العقوبات المفروضة عليها بسبب الأزمة الأوكرانية. التقى تسيبراس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 8 أبريل/نيسان و19 يونيو/حزيران الماضيين. كان العرض الروسي "مغرياً"، يبدأ بتمرير خطوط "السيل الجنوبي" (أو السيل التركي)، الآتي من روسيا عبر الجهة التركية من البحر الأسود، ثم يتحوّل بعدها إلى اليونان، ومنها إلى ألمانيا وفرنسا. مع العلم أن أوكرانيا أقدمت على خطوة "ناقصة" بتعليقها مساء الأربعاء، عمليات شراء الغاز الروسي، بعد فشل البلدين في التوصّل إلى حلّ. لا يقف العرض عند هذا الحدّ، بل يشمل احتمال انضمام اليونان إلى "الاتحاد الأوراسي"، في توسيع مخالف للطبيعة الفعلية التي انبثق منها "الاتحاد الأوراسي"، وهو جمع الجمهوريات السوفييتية السابقة تحت مظلّة موسكو اقتصادياً.
على أن المسألة الأكثر تعقيداً في موضوع الأزمة اليونانية، تتظهّر في الخيارات اليسارية "المرفوضة" غربياً. لا يريد الغرب وفقاً لما يتمّ التداول به، نجاح الخيارات اليسارية في معالجة الأزمات الاقتصادية، لأنه سيُمهّد لقيام موجة يسارية مالياً في أوروبا، تسمح بإعادة النظر في كيفية تعامل الاتحاد الأوروبي مع موضوع الهجرة والمهاجرين. وهو ما قد يفعله "سيريزا" في حال تمكن من فرض الحدّ الأدنى من شروطه على أوروبا. وتقدّم "سيريزا" سيُتيح المجال لحركة "بوديموس" (الساخطون) في إسبانيا باستجماع قوتها، وربما بدء التحرّك في سحب مدريد من اليورو لاحقاً. ولا يعود أمام أوروبا سوى خيار من اثنين:
يقضي الخيار الأول، إما القبول بالواقع اليوناني، مع احتمال توسّعه إلى بلدان أخرى قد تعتنق "الخيار اليوناني" في التعامل مع أزماتها الاقتصادية. أي انتصار "الخيار اليساري" في معالجة الأزمات. أما الخيار الثاني، فيتمحور حول التشدّد الأوروبي بالشروط، ما يُمهّد لبدء حركة انقسامية مالية في دول الاتحاد تتحوّل إلى سياسية لاحقاً.
اعتقدت أوروبا أن الوحدة المالية ستُذيب خلافات قومية ودينية وعرقية دامت قروناً في القارة العجوز، وستُمهّد لقيام تحالف "الحدّ الأدنى" سياسياً، بين الأفرقاء الأوروبيين، على الرغم من تعقيدات الدستور الأوروبي. انتظرت أوروبا فرصة تاريخية، تجلّت في انهيار الاتحاد السوفييتي في العام 1991، من أجل الانطلاق بقطار وحدتها. وكما أتت الوحدة من الشرق فإن الاهتزاز، لا الانهيار، يأتي من الشرق أيضاً.
اقرأ أيضاً اليونان: أحلام الإنقاذ في عهدة تسيبراس