اليوم الأحد تصنع اليونان قدرها باستفتاءٍ شعبي: إما تقول "لا" للشروط التقشفية في وجه الاتحاد الأوروبي، وإما تتحوّل إلى "نعم" خاضعة لكبار القارة العجوز. لذلك وضعت حكومة "سيريزا" اليسارية الراديكالية، بقيادة أليكسيس تسيبراس، البلاد أمام قرار حاسم، قد يُغيّر وجه أوروبا بالكامل.
أثينا، صيف 2014: جدران ساحة البرلمان اليوناني مزدانة بـ"غرافيتي" رفضية لسياسة الاتحاد الأوروبي وأحزاب تعاقبت على حكم اليونان في مرحلة ما بعد الأزمة المالية العالمية 2008. مهندسون وتجار وأطباء تحوّلوا إلى باعة كعك وسائقي أجرة لكسب قوتهم من السياح. الأبواب المُقفلة للمتاجر تشي بثورة كامنة. شرطة مكافحة الشغب في كل مكان، في استنفار ضمني، يشبه استنفارات بعض الدول العربية. التظاهرات أضحت أمراً طبيعياً في بلاد هادئة طالما كانت مقصداً للسياح. لم يعتد اليونانيون مثل هذه الحالة.
أثينا، يناير/كانون الثاني 2015: طرأ تحوّل بارز على السلطة في البلاد. وصل حزب "سيريزا" إلى الحكم، مقرّراً القتال في سبيل الحقوق اليونانية أمام الأوروبيين. دفع في اتجاه المفاوضات المباشرة مع الأوروبيين من دون أقنعة، وبعد أشهر مضنية من المفاوضات وصلت الأمور إلى استفتاء اليوم. استفتاء يريد عبره تسيبراس، كسب تفويض شعبي، إما لمواصلة التفاوض، في حال رفض اليونانيون شروط أوروبا المالية والاقتصادية، وإما الاستقالة في حال قَبِل اليونانيون بها، وهو ما لن يشارك "سيريزا" في إدارته. تسيبراس كان واضحاً: "لن نشارك في إدارة سياسة التقشف، إذا وافق اليونانيون عليها".
يعلم تسيبراس أن ما يقوم به يُعدّ "فرصة أخيرة" لليونانيين، لفرض "حكمهم الذاتي" في إطار الاتحاد الأوروبي، أو في أقصى الاحتمالات "الخروج من الاتحاد"، مع ما يعنيه ذلك من توجّه لإعادة هيكلة السوق اليوناني والعودة إلى "الدراخما" بدل "اليورو" والبحث عن خيارات اقتصادية جديدة، وربما التوجّه شرقاً إلى أبعد من دول أوروبا الشرقية، إلى روسيا والصين، أو إلى جنوب دول القارة العجوز. استقلالية قد تكون أكثر سوءاً مما هو الوضع عليه حالياً، لكنها تفتح آفاقاً أكثر لليونانيين لمعالجة وضعهم وفقاً لنظرتهم الخاصة، لا وفقاً لنظرة الجهات الدائنة.
مرّت اليونان بتحوّلات عدة في السنوات الخمس الماضية، وعلى خلفية الأزمة المالية العالمية 2008، تهاوى اقتصاد البلاد، ما حدا بالسلطات إلى طلب المساعدة الأوروبية. كان شيئاً جديداً بالنسبة لأوروبا، التي رفدت أثينا بأكبر حزمة مساعدات في تاريخها، وبلغت 107 مليارات يورو (110 مليارات دولار) دفعة واحدة في العام 2012. كما تمّ تقديم حزم مالية أوروبية، بالتوازي مع خطط تقشفية يونانية لم يستطع الشعب تحمّلها. بالتالي لم تتمكن الدولة الإغريقية من الإيفاء بديونها، وسط ارتفاع قيمة الفوائد التي فرضها الدائنون، وهو ما زاد من حجم الفاجعة الاقتصادية.
بلغت الأمور حدّاً غير مسبوق، مع شطب بعض الديون الأوروبية، والتي تبقى قيمتها صورية لا فعلية، كونها لم تدخل في سياق ضخّ السيولة، بقدر ما أنها مجرّد مبالغ مترتبة على اليونان، من الفوائد المفروضة على المساعدات. وأدت الأمور لاحقاً إلى خلاصة تفيد بعدم اعتبار وضع شروط الدول الدائنة كشروط إنقاذية لليونان. هكذا كانت الديون الأوروبية طريق أثينا للمزيد من السقوط بدل أن تكون يداً لانتشالها من الهاوية.
اقرأ أيضاً: اليونان وأوروبا: مسيرة رفض الخيار اليساري
يقترح الدائنون فائضاً في الميزانية اليونانية للأعوام 2015 و2016 و2017 و2018 بمعدل 1 في المائة و2 في المائة و3 في المائة و3.5 في المائة على التوالي. في المقابل، اقترحت اليونان فائضاً بنسبة 0.6 في المائة للعام 2015، و1.5 في المائة للعام 2016، و2.5 في المائة للعام 2017 و3.5 في المائة للعام 2018. كما طلب الدائنون "الغاءً فورياً لكل استثناء حول الضريبة على القيمة المضافة"، في حين اقترحت أثينا "تطبيق التغييرات على ضريبة القيمة المضافة، اعتباراً من الأول من أكتوبر/تشرين الأول المقبل، بعد انتهاء الموسم السياحي".
وتعني شروط الدائنين، ضمن "خطة الإنقاذ" بعد جولات التفاوض التي قادها من الجانب اليوناني وزير المالية يانيس فاروفاكيس، المزيد من الضرائب على الشعب اليوناني، بما فيها تشديد الشروط التقشفية والمساس بالأجور التعاقدية وزيادة فواتير الخدمات التقليدية من كهرباء وماء ومواصلات وغيرها، بموازاة تخفيض الحدّ الأدنى للأجور. وضع دفع بوزير المالية المشاكس فاروفاكيس إلى اتهام أوروبا بـ"الإرهاب".
ولا تُشجع تلك الشروط على إنقاذ اليونان، خصوصاً أن مليون يوناني، من أصل 11 مليوناً يُشكّلون عدد سكان البلاد، خسروا وظائفهم، كما أقفلت 30 في المائة من المؤسسات أبوابها، وارتفعت نسب البطالة إلى 25 في المائة من مجمل الشعب اليوناني، و50 في المائة للفئة العمرية ما دون الـ25 عاماً. كما ارتفعت معدلات الفقر بنسبة 98.2 في المائة. أما الأمر الأكثر مأسوية في الموضوع، فهو تسجيل انتحار شخصين يومياً كمعدّل بسبب الأزمة اليونانية. ومع ذلك، ترغب الدول الدائنة، وعلى رأسها ألمانيا، الاستمرار بفرض شروط "خطة الإنقاذ"، على الرغم من أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، سعت إلى الخروج باتفاق مخفف مع اليونانيين، مع تمسكّها بالشروط الأساسية للجهات الدائنة.
"هل تقبلون أم لا خطة الإنقاذ الجديدة التي تقضي بتبني إجراءات تقشفية صارمة"؟، هو السؤال الذي سيجيب عنه الناخبون اليونانيون، اليوم الأحد، وهو السؤال الذي سيحكم أوروبا الجديدة، مهما كان خيار الشعب اليوناني في الاستفتاء. "لا" ستكون بداية دقّ مسمار انهيار الاتحاد الأوروبي، و"نعم" ستكون فرصة لكبار القارة للتحكّم بالدول التي تعاني كاليونان اليوم، ولاحقاً إسبانيا وإيطاليا، وبدرجة أقلّ البرتغال وايرلندا.
يعلم تسيبراس ذلك جيداً، لذلك توجّه إلى اليونانيين مساء الجمعة بالقول: "لا نريد سوى العدالة، والديمقراطية هي سبب للاحتفال وللتطلّع قدماً إلى الأمام. الأحد اليونان ستتحدّى خوفها".
اقرأ أيضاً: سيناريوهات الأزمة اليونانية ما بعد الاستفتاء