07 ديسمبر 2023
اليمن وحال أحزاب اللقاء المشترك
تمرّ الذكرى الرابعة عشرة لاغتيال القيادي في الحزب الاشتراكي (اليمني)، جار الله عمر، في ديسمبر/ كانون الأول 2002 في أثناء إلقائه خطاباً في المؤتمر العام لحزب التجمع اليمني للإصلاح، في وقت ينفرط فيها عقد أحزاب اللقاء المشترك، بل وفيما الأحزاب اليمنية في حالة جمود فرضها تجريف الحياة السياسية بالحرب، وبينما رؤساء الأحزاب وقياداتها مصابون بالشلل. كان تحالف أحزاب اللقاء المشترك حالةً فريدة في الوطن العربي، إذ لأول مرة يتشكل تجمع سياسي لأحزاب المعارضة في مواجهة نظام عربي تسلطي، تحالف يسعى إلى تنسيق سياسي بين أحزاب متباينة أيديولوجياً. لكن، على الرغم من عبقرية فكرة هذا التحالف، إلا أنه أصيب بالشيخوخة مبكراً، ولم يعد له وجود حالياً.
كان جار الله عمر من أشد المتحمسين للتحول الديمقراطي في اليمن، حيث دعا له بحماس شديد بعد الأحداث الدموية التي شهدها الجنوب عام 1986، وقوّضت تجربة الحزب الاشتراكي، حتى اندفع بالوحدة عام 1990. حينها كانت فكرة الديمقراطية وتعدّدية الأحزاب مخرجاً لكلا طرفي الوحدة، بخلفيتيهما الاستبدادية، ودوافع الفشل والاستحواذ التي تحرّكهما، وليس التخطيط والإرادة. هكذا تحايل الحزب الأوحد في الشطرين على اعتباطية قرار الوحدة التي كان يميل إليها جار الله عمر، ضمن مراحل متعدّدة، تبدأ بمرحلة انتقالية، وليس بالشكل المتعجل الذي تم.
كان أيضا لجار الله موقف متمايز آخر في أثناء الأزمة السياسية التي أعقبت الوحدة، وسبقت الحرب الأهلية في عام 1994، حيث دعا الحزب الاشتراكي للانحياز للشارع الذي كان يميل إلى تبني مطالب الحزب، وكان يشهد حراكاً مهماً ضمن تلك الأزمة، لكن ضيق الأفق، كالعادة، دفع قيادات الحزب إلى الانحياز للسلطة ومفاهيم القوة بشكلها التقليدي المرتبط بالسلطة والسلاح، ليخسر معركته ضد نظام صنعاء حينها.
كان جار الله عمر حالةً فريدةً في السياسة اليمنية، ليس لأنه يحاول لعب دور الزعيم الملهم، بل لأنه كان يفكّر خارج المألوف من دون تخلٍّ عن قناعاته السياسية المبدئية. من هذا المنطلق، جاءت فكرته الألمعية، وهي تشكيل تحالف سياسي من أحزاب المعارضة ضد التغوّل السلطوي للرئيس السابق علي صالح، وحزبه المؤتمر الشعبي العام، لإعادة الحياة السياسية للمسار الديمقراطي الذي أجهض مبكراً بعد حرب 1994، وبالاتساق مع طبيعة الخيال السياسي لجار الله، فالتحالف يهدف إلى استخدام أدوات الضغط، بما فيها الشعبية في مسارٍ سياسيٍّ ينحاز للديمقراطية.
تفيد ملابسات حادث الاغتيال وطبيعة الاستهداف، بوضوح، بأن الفاعل كان يسعى إلى تقويض فكرة التحالف، قبل إعلانه الذي تم اغتيال جار الله بعده بشهرين. طبقت الفكرة، لكن غياب جار الله أفرغها من أهم مضامينها، وهي العمل السياسي المنحاز للشارع، فأدمنت هذه الأحزاب التنسيق في ما بينها، لتدخل في مفاوضات سياسية مستمرة داخل غرفٍ مغلقة مع السلطة، وابتعدت كثيراً عن الشارع، فلم تخاطب الطالب والعامل والفلاح، بل ظلت أسيرة لفكرة التفاوض من دون سقف سياسي مرتفع، والأهم من دون خيال سياسيٍّ حقيقيٍّ، لا يخرج عن دائرة الاتفاقات السرية والمعطوبة دوماً.
لم يكن من باب العجب أن يخرج شباب في عام 2011 في أثناء الثورة، يهتفون "لا حزبية ولا أحزاب.. ثورتنا ثورة شباب"، يحاول الشعار التعبير عن نقاء الثورة، بسبب انعدام الثقة بالأحزاب، أي ثماني سنوات من العمل الحزبي ضمن تحالف اللقاء المشترك كانت نتيجتها التوجس الشعبي تجاه الأحزاب التي صارت ترتبط بفكرة المحاصصة، ومفاهيم الانتهازية، والبعد عن المجتمع، من خلال انخراط نخبوي في الصراع على السلطة. هكذا صارت الأحزاب مرادفاً للشقاق والضغينة في أذهان بسطاء كثيرين، وصار كثيرون من شباب الثورة ينزه ثورته عن الحزبية، كفعل أكثر نقاءً وإخلاصاً، متجاهلاً حقيقة أن الأحزاب كيانات سياسية ضرورية لأي دولة ديمقراطية حديثة.
من 2003 تحرك الشعب اليمني عدة مرات، بسبب ارتفاع الأسعار، كما شهد الشارع اليمني، بشكل مضطرد، مظاهر إضراب ومظاهرات في الجنوب أو في صنعاء العاصمة، مع تباين الطلبات والدوافع، وإن كنت كلها مظالم الحكم الاستبدادي، ولم تستطع هذه الأحزاب فعل شيء. وعوضاً عن التحرّك مع مطالب الشارع، ظلت أسيرة لمفاوضاتها مع السلطة، وأقصى همومها تعديل الانتخابات، والحصول على حصة أكبر في مجلس النواب.
كان الحراك الشعبي في 2011 بمثابة طوق نجاة للأحزاب، بعد تملص علي عبدالله صالح من اتفاقه الأخير معها، والذي بموجبه تأجلت الانتخابات البرلمانية. لم تكن هذه الأحزاب تملك أي خيارات تفاوضٍ، في وقت تزداد سلطوية الحاكم مع تنامي مشروعه التوريثي، سوى اللجوء إلى الشارع الذي انفصلت عنه طويلاً. لذا، كانت الثورة فرصةً جيدةً لترميم علاقة الأحزاب اليمنية بالشارع.
ما حدث كان معاكساً، فقد انشغل حزب الإصلاح بفكرة التنظيم، وتعامل مع الساحة الثورية بهاجس الحفاظ على وحدة الصف، بمنطق دهس الاختلافات، وليس التنسيق بين المكوّنات المختلفة، بل إنه أجهض الإنجاز الأهم للساحة، وهو كسر احتكار السياسة والمجال العام في إطار نخبة محدودة للجمهور الواسع، من خلال سعي حزب الإصلاح إلى تفريغ الساحة من العمل السياسي، بنشاطه الأمني أو التنظيمي، واحتكار تمثيلها ومنصتها.
لم يكن الحال أفضل لدى الحزبين، الاشتراكي والناصري، اللذين أفلتا هذه الفرصة، بسبب سوء تنظيمهما وغياب القيادات. بالتالي، كانت كوادرهما تعمل بشكل مستقل، من دون تنسيق، وأهدرت فرصة أخرى في إضافة رصيد شعبي لحضورهما الباهت. والأدهى أن الأحزاب، عوضاً عن الارتفاع بمطالبها وأدائها إلى مستوى الثورة، هبطت بالثورة لينخفض سقف مطالبها، وتنتهي الثورة بسقف مطالب الأحزاب التقليدية، أي حصة في السلطة وتعديل نظام الانتخابات، مع إضافة بند كان يبدو خيالياً قبل 2011، وهو عزل الرئيس علي عبدالله صالح عن الحكم.
أكثر ما كرّس الصورة السلبية عن الأحزاب اليمنية ليس فقط انحيازها الدائم للصفقات والمساومات، وقبولها المحاصصة الوظيفية، بشكلٍ يتناقض مع خطابها الإعلامي الغاضب والناقد، ما كان يرفع توقعات الناس منها، بل أيضاً أداؤها الضعيف في السلطة، فليس فقط بسبب ضعف خبرتها الإدارية، وهذا مفهوم، بل لأن ارتفاع حمى خطابها، لم يترافق مع التفكير ببدائل سياسية واقتصادية. لذا، لم يكن أداؤها في السلطة مختلفاً عن سابقها.
لم تكن مشكلة تحالف أحزاب اللقاء المشترك، كما يدّعي أنصار صالح، عدم التناغم الأيديولوجي بين أطرافه، فقد كانت فكرته، من البداية، تقوم على التنسيق، من دون تماهٍ، بل
كانت مشكلته نتاج تهافت القيادة الحزبية، وعدم استيعاب المستجدات والمتغيرات، مع استمرار العمل بإيقاع بطيء يفتقد دوماً للمبادرة التي كان يمسك بزمامها الرئيس السابق صالح، ومن ثم الأمم المتحدة. هكذا ظلت هذه الأحزاب أسيرة لرد الفعل، ولم تحاول أي منها مراجعة أدائها، أو إعادة ترتيب أولوياتها، حسب تغير المرحلة، فمثلاً كانت ثورة 2011 تستدعي تحولاً في طبيعة هذا التحالف الحزبي وأسلوباً مختلفاً للعمل.
من الضروري، في أثناء ذكرى اغتيال صاحب فكرة اللقاء المشترك، مراجعة كل ما جرى وتقييمه، بعد تحلل هذا التحالف، حيث صار كل حزبٍ فيه يهيم منفرداً، فالأحزاب الصغيرة اختفت، وأحزاب الإسلام السياسي الزيدي تماهت مع المليشيا الحوثية، والأحزاب الكبيرة لم تراجع أخطاءها، ووقعت في أسر الخلافات المناطقية والمذهبية بين أعضائها. بدائل الأحزاب هي التكوينات المناطقية والقبلية والمذهبية بعيداً عن السياسة، ولا يمكن معالجة وضع هذه الأحزاب، من دون استدعاء ما جرى، خصوصاً أسباب إخفاق تجربة أحزاب اللقاء المشترك.
كان جار الله عمر من أشد المتحمسين للتحول الديمقراطي في اليمن، حيث دعا له بحماس شديد بعد الأحداث الدموية التي شهدها الجنوب عام 1986، وقوّضت تجربة الحزب الاشتراكي، حتى اندفع بالوحدة عام 1990. حينها كانت فكرة الديمقراطية وتعدّدية الأحزاب مخرجاً لكلا طرفي الوحدة، بخلفيتيهما الاستبدادية، ودوافع الفشل والاستحواذ التي تحرّكهما، وليس التخطيط والإرادة. هكذا تحايل الحزب الأوحد في الشطرين على اعتباطية قرار الوحدة التي كان يميل إليها جار الله عمر، ضمن مراحل متعدّدة، تبدأ بمرحلة انتقالية، وليس بالشكل المتعجل الذي تم.
كان أيضا لجار الله موقف متمايز آخر في أثناء الأزمة السياسية التي أعقبت الوحدة، وسبقت الحرب الأهلية في عام 1994، حيث دعا الحزب الاشتراكي للانحياز للشارع الذي كان يميل إلى تبني مطالب الحزب، وكان يشهد حراكاً مهماً ضمن تلك الأزمة، لكن ضيق الأفق، كالعادة، دفع قيادات الحزب إلى الانحياز للسلطة ومفاهيم القوة بشكلها التقليدي المرتبط بالسلطة والسلاح، ليخسر معركته ضد نظام صنعاء حينها.
كان جار الله عمر حالةً فريدةً في السياسة اليمنية، ليس لأنه يحاول لعب دور الزعيم الملهم، بل لأنه كان يفكّر خارج المألوف من دون تخلٍّ عن قناعاته السياسية المبدئية. من هذا المنطلق، جاءت فكرته الألمعية، وهي تشكيل تحالف سياسي من أحزاب المعارضة ضد التغوّل السلطوي للرئيس السابق علي صالح، وحزبه المؤتمر الشعبي العام، لإعادة الحياة السياسية للمسار الديمقراطي الذي أجهض مبكراً بعد حرب 1994، وبالاتساق مع طبيعة الخيال السياسي لجار الله، فالتحالف يهدف إلى استخدام أدوات الضغط، بما فيها الشعبية في مسارٍ سياسيٍّ ينحاز للديمقراطية.
تفيد ملابسات حادث الاغتيال وطبيعة الاستهداف، بوضوح، بأن الفاعل كان يسعى إلى تقويض فكرة التحالف، قبل إعلانه الذي تم اغتيال جار الله بعده بشهرين. طبقت الفكرة، لكن غياب جار الله أفرغها من أهم مضامينها، وهي العمل السياسي المنحاز للشارع، فأدمنت هذه الأحزاب التنسيق في ما بينها، لتدخل في مفاوضات سياسية مستمرة داخل غرفٍ مغلقة مع السلطة، وابتعدت كثيراً عن الشارع، فلم تخاطب الطالب والعامل والفلاح، بل ظلت أسيرة لفكرة التفاوض من دون سقف سياسي مرتفع، والأهم من دون خيال سياسيٍّ حقيقيٍّ، لا يخرج عن دائرة الاتفاقات السرية والمعطوبة دوماً.
لم يكن من باب العجب أن يخرج شباب في عام 2011 في أثناء الثورة، يهتفون "لا حزبية ولا أحزاب.. ثورتنا ثورة شباب"، يحاول الشعار التعبير عن نقاء الثورة، بسبب انعدام الثقة بالأحزاب، أي ثماني سنوات من العمل الحزبي ضمن تحالف اللقاء المشترك كانت نتيجتها التوجس الشعبي تجاه الأحزاب التي صارت ترتبط بفكرة المحاصصة، ومفاهيم الانتهازية، والبعد عن المجتمع، من خلال انخراط نخبوي في الصراع على السلطة. هكذا صارت الأحزاب مرادفاً للشقاق والضغينة في أذهان بسطاء كثيرين، وصار كثيرون من شباب الثورة ينزه ثورته عن الحزبية، كفعل أكثر نقاءً وإخلاصاً، متجاهلاً حقيقة أن الأحزاب كيانات سياسية ضرورية لأي دولة ديمقراطية حديثة.
من 2003 تحرك الشعب اليمني عدة مرات، بسبب ارتفاع الأسعار، كما شهد الشارع اليمني، بشكل مضطرد، مظاهر إضراب ومظاهرات في الجنوب أو في صنعاء العاصمة، مع تباين الطلبات والدوافع، وإن كنت كلها مظالم الحكم الاستبدادي، ولم تستطع هذه الأحزاب فعل شيء. وعوضاً عن التحرّك مع مطالب الشارع، ظلت أسيرة لمفاوضاتها مع السلطة، وأقصى همومها تعديل الانتخابات، والحصول على حصة أكبر في مجلس النواب.
كان الحراك الشعبي في 2011 بمثابة طوق نجاة للأحزاب، بعد تملص علي عبدالله صالح من اتفاقه الأخير معها، والذي بموجبه تأجلت الانتخابات البرلمانية. لم تكن هذه الأحزاب تملك أي خيارات تفاوضٍ، في وقت تزداد سلطوية الحاكم مع تنامي مشروعه التوريثي، سوى اللجوء إلى الشارع الذي انفصلت عنه طويلاً. لذا، كانت الثورة فرصةً جيدةً لترميم علاقة الأحزاب اليمنية بالشارع.
ما حدث كان معاكساً، فقد انشغل حزب الإصلاح بفكرة التنظيم، وتعامل مع الساحة الثورية بهاجس الحفاظ على وحدة الصف، بمنطق دهس الاختلافات، وليس التنسيق بين المكوّنات المختلفة، بل إنه أجهض الإنجاز الأهم للساحة، وهو كسر احتكار السياسة والمجال العام في إطار نخبة محدودة للجمهور الواسع، من خلال سعي حزب الإصلاح إلى تفريغ الساحة من العمل السياسي، بنشاطه الأمني أو التنظيمي، واحتكار تمثيلها ومنصتها.
لم يكن الحال أفضل لدى الحزبين، الاشتراكي والناصري، اللذين أفلتا هذه الفرصة، بسبب سوء تنظيمهما وغياب القيادات. بالتالي، كانت كوادرهما تعمل بشكل مستقل، من دون تنسيق، وأهدرت فرصة أخرى في إضافة رصيد شعبي لحضورهما الباهت. والأدهى أن الأحزاب، عوضاً عن الارتفاع بمطالبها وأدائها إلى مستوى الثورة، هبطت بالثورة لينخفض سقف مطالبها، وتنتهي الثورة بسقف مطالب الأحزاب التقليدية، أي حصة في السلطة وتعديل نظام الانتخابات، مع إضافة بند كان يبدو خيالياً قبل 2011، وهو عزل الرئيس علي عبدالله صالح عن الحكم.
أكثر ما كرّس الصورة السلبية عن الأحزاب اليمنية ليس فقط انحيازها الدائم للصفقات والمساومات، وقبولها المحاصصة الوظيفية، بشكلٍ يتناقض مع خطابها الإعلامي الغاضب والناقد، ما كان يرفع توقعات الناس منها، بل أيضاً أداؤها الضعيف في السلطة، فليس فقط بسبب ضعف خبرتها الإدارية، وهذا مفهوم، بل لأن ارتفاع حمى خطابها، لم يترافق مع التفكير ببدائل سياسية واقتصادية. لذا، لم يكن أداؤها في السلطة مختلفاً عن سابقها.
لم تكن مشكلة تحالف أحزاب اللقاء المشترك، كما يدّعي أنصار صالح، عدم التناغم الأيديولوجي بين أطرافه، فقد كانت فكرته، من البداية، تقوم على التنسيق، من دون تماهٍ، بل
من الضروري، في أثناء ذكرى اغتيال صاحب فكرة اللقاء المشترك، مراجعة كل ما جرى وتقييمه، بعد تحلل هذا التحالف، حيث صار كل حزبٍ فيه يهيم منفرداً، فالأحزاب الصغيرة اختفت، وأحزاب الإسلام السياسي الزيدي تماهت مع المليشيا الحوثية، والأحزاب الكبيرة لم تراجع أخطاءها، ووقعت في أسر الخلافات المناطقية والمذهبية بين أعضائها. بدائل الأحزاب هي التكوينات المناطقية والقبلية والمذهبية بعيداً عن السياسة، ولا يمكن معالجة وضع هذه الأحزاب، من دون استدعاء ما جرى، خصوصاً أسباب إخفاق تجربة أحزاب اللقاء المشترك.