02 أكتوبر 2024
اليمن.. الحرب بالكوليرا
تتجاوز سنوات الحرب والمجاعة والكوليرا التي يعيشها اليمنيون اليوم ما عاشه آباؤهم في عام الجوع 1943، عندما مات الأهالي بسبب كارثة طبيعية، ليست من صنع الإنسان. أما الواقع الذي يواجهونه فهو حصاد سياسة أطراف الصراع اليمنية وحلفائهم الإقليميين، فخلافاً لمجتمعات الحروب التي تتفشّى فيها الكوارث الإنسانية، فإن انهيار أنماط الحياة في اليمن نتيجة رئيسية للقرارات الاقتصادية المسيسة التي اتخذتها أطراف الصراع اليمنية وحلفاؤها، ومحصلة لامبالاتهم في معالجة تبعات حروبهم على اليمنيين التي يشكل الفقر وانتشار الأوبئة أبرز مظاهرها.
تفشّي مرض الكوليرا في معظم مناطق اليمن بهذه الصورة المأساوية، وتسبّبه في وفاة أكثر من 1300 يمني في أقل من شهرين، والعدد مرشح للزيادة يوماً بعد آخر، فضلاً عن وصوله إلى الأرياف البعيدة، حوّله من مرضٍ يمكن تطويقه ومعالجة أسبابه إلى وباء خارج عن السيطرة. وباء الكوليرا ولّدته بيئة الفقر التي يعيشها اليمنيون، والتي أنتجتها سياسات أطراف الصراع اليمنية، حيث تعمد هذه الأطراف إلى إفقار اليمنيين بشتّى الوسائل، وتعطيلها الرئات الاقتصادية الرسمية التي كان يستفيد منها المواطنون لمواجهة أعباء الحرب والمرض، من دون أن توجد، في المقابل، بدائل اقتصادية للمتضرّرين، ومن ثم لم تكن أزمة رواتب موظفي الدولة سوى كرة الثلج المتدحرجة التي سحقت الطبقات الوسطى، وعمّمت الفقر، ليشمل كل أطياف المجتمع اليمني. استطالة أمد الحرب في اليمن، وانهيار البنية التحتية لمعظم مرافق الدولة، أسباب أخرى لعودة أمراض انقرضت قبل عقود في اليمن، إلا أن إرادة أطراف الصراع اليمنية هي المسؤولة، بالدرجة الأولى، في بعث مرض الكوليرا وانتشاره.
سجلت منظمة الصحة العالمية، في 8 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أولى حالات ظهور
مرض الكوليرا في اليمن، وأكدت أن ندرة المياه الصالحة للشرب، وتدهور الأوضاع الصحية، قد يجعلان من الكوليرا وباء يكتسح معظم المدن، وطالبت سلطات الحرب بتحمل مسؤوليتها لتطويق المرض في بدايته، إلا أن أطراف الصراع اليمنية تجاهلت مؤشرات انتشار الكوليرا، وعمدت إلى تجريف القطاع الصحي الحكومي الذي ربما كان سيلعب دوراً في إنقاذ أرواح اليمنيين، والذي لطالما اعتمد اليمنيون على خدماته، إذ حرمت أطراف الصراع المستشفيات الحكومية من المنح الدولية والمساعدات الطبية لإعادة تشغيلها بعد تضرّرها جراء الحرب، ودعمت هذه الأطراف سطو مسلحيها على هذه الموارد، في حين استغلت أطراف الصراع المنح الدولية لتأهيل مستشفيات خاصة، تابعة لها مباشرة أو لمتنفذين في سلطتها. أسهمت هذه السياسات اللا مسؤولة في شل القطاع الصحي الحكومي، وعجزه عن مواجهة الأمراض الطارئة. وفي هذا السياق، أغلقت مستشفى الثورة في مدينة تعز، وهو من أكبر المستشفيات الحكومية، بعد حصار فرضته أطراف تابعة للسلطة الشرعية. وبذلك، فإن سياسات سلطات الحرب حيال القطاع الصحي، بقدر ما كانت عاملاً في تزايد ضحايا الكوليرا، إلا أنها مقدّمة مدروسة لخصخصة القطاع الصحي في اليمن، كما حدث في لبنان في أثناء الحرب الأهلية، مستغلةً حالة الحرب وغياب الرقابة المجتمعية.
تصرّ أطراف الصراع على مفاقمة الوضع الإنساني في اليمن، متكئةً على أساليب غير أخلاقية في التعاطي مع اليمنيين، إذ لم تكتف بقتلهم في حربها العبثية، بل استثمرت نكباتهم، حيث تفيد تقارير إعلامية بأن الأموال التي خصّصتها الجهات والدول المانحة لمكافحة الكوليرا تفوق الأموال التي ضخّت لليمن منذ بدء الحرب. ما جعل أطراف الصراع تقارب وباء الكوليرا، ليس باعتباره تحدياً إنسانياً يجب القضاء عليه، وإنما مصدراً جديداً يدرّ لها الأموال، ففي مقابل سماحها للمنظمات الدولية العاملة في الصحة بالعمل في مناطقها، وتسهيل تأشيرات السفر للموظفين الدوليين، تحصل هذه الأطراف على نسب مالية من المنح الدولية، فضلاً عن احتكار المنظمات والمستشفيات التابعة لها في مكافحة الكوليرا.
شجّع فساد سلطات أطراف الصراع ولا مبالاتها حيال موت اليمنيين المنظمات الدولية في ممارسة فسادها على حساب المنح المخصصة لمكافحة الكوليرا، إذ تذهب نسبة كبيرة من هذه المنح في نفقاتٍ تشغيلية، مثل رواتب الموظفين والخبراء الدوليين، وسفريات ترفيهية شهرية
إلى بلدانهم. كما أن هذه المنظمات لا تنشط في جميع المدن التي ينتشر فيها الوباء، وإنما تتمركز في بعض المدن، متجاهلة الأرياف اليمنية التي هي من البؤر الأساسية في تفشي المرض، فضلاً عن افتقارها للمرافق الصحية، وهو ما يجعل موت مريض الكوليرا واقعاً يومياً، كما أن هذه المنظمات لم تعالج أسباب المرض الذي تعد المياه الملوثة أهم أسبابه، فلا تنقية للمياه في مناطق الوباء، ولا عيادات ميدانية متحرّكة لتطويق المرض. فيما يقيم الخبراء الدوليون في فنادق الشيراتون في صنعاء لمكافحة وباء الكوليرا. في المقابل، تسوق المنظمات الدولية حملتها الإعلامية في مكافحة الكوليرا لطلب مزيد من تمويل المانحين، والثراء على حساب موت اليمنيين. أما ما تقدّمه المنظمات الدولية لمرضى الكوليرا فهو حقيبة وصابون وكتيب عن إجراءات السلامة للحالات البسيطة، ومحلول إرواء للحالات الخطيرة. فيما تستمر الكوليرا في حصد الأرواح، ففي 25 يونيو/ حزيران الماضي، وفي يوم واحد، مات 15 يمنياً جرّاء إصابتهم بمرض الكوليرا في إحدى مديريات الحديدة.
إطالة أمد الحرب وتعميم الفقر وتفشّي وباء الكوليرا أدواتٌ أخرى لأطراف الصراع اليمنية لإنهاك اليمنيين، بغرض القضاء على أي قوة اجتماعيةٍ تتخلق وتدين جرائمهم، إذ انشغل اليمنيون بالتنكيل ببعضهم بعضاً، كما أحدثت حدّة الفقر تحولاتٍ اجتماعيةً خطيرةً في المجتمع اليمني، ربما أقساها تزايد حالات انتحار اليمنيين، وسيلة لرفض حياة الفقر والفاقة، فضلاً عن القدرية المحزنة التي توصف الفقر والحرب وانتشار الكوليرا عقوبةً دينيةً مستحقةً من قوى غيبية.
لم يعد الموت جرّاء قذائف مليشيات الحوثي وعلي عبدالله صالح وغارات طيران التحالف يلائم المسارات التي ذهبت فيها الحرب في اليمن، إذ تنطوي هذه الفظاعات على كثير من الدراما: تنوّع في طريقة الموت، فردية مأساوية، تحديد هوية القاتل، لكن الموت جرّاء وباء الكوليرا يشبه اليمنيين، موتٌ حزين بلا خصوصية ولا خيال، موتٌ جماعي ومنسي، تماماً كالحرب في بلادهم.
تفشّي مرض الكوليرا في معظم مناطق اليمن بهذه الصورة المأساوية، وتسبّبه في وفاة أكثر من 1300 يمني في أقل من شهرين، والعدد مرشح للزيادة يوماً بعد آخر، فضلاً عن وصوله إلى الأرياف البعيدة، حوّله من مرضٍ يمكن تطويقه ومعالجة أسبابه إلى وباء خارج عن السيطرة. وباء الكوليرا ولّدته بيئة الفقر التي يعيشها اليمنيون، والتي أنتجتها سياسات أطراف الصراع اليمنية، حيث تعمد هذه الأطراف إلى إفقار اليمنيين بشتّى الوسائل، وتعطيلها الرئات الاقتصادية الرسمية التي كان يستفيد منها المواطنون لمواجهة أعباء الحرب والمرض، من دون أن توجد، في المقابل، بدائل اقتصادية للمتضرّرين، ومن ثم لم تكن أزمة رواتب موظفي الدولة سوى كرة الثلج المتدحرجة التي سحقت الطبقات الوسطى، وعمّمت الفقر، ليشمل كل أطياف المجتمع اليمني. استطالة أمد الحرب في اليمن، وانهيار البنية التحتية لمعظم مرافق الدولة، أسباب أخرى لعودة أمراض انقرضت قبل عقود في اليمن، إلا أن إرادة أطراف الصراع اليمنية هي المسؤولة، بالدرجة الأولى، في بعث مرض الكوليرا وانتشاره.
سجلت منظمة الصحة العالمية، في 8 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أولى حالات ظهور
تصرّ أطراف الصراع على مفاقمة الوضع الإنساني في اليمن، متكئةً على أساليب غير أخلاقية في التعاطي مع اليمنيين، إذ لم تكتف بقتلهم في حربها العبثية، بل استثمرت نكباتهم، حيث تفيد تقارير إعلامية بأن الأموال التي خصّصتها الجهات والدول المانحة لمكافحة الكوليرا تفوق الأموال التي ضخّت لليمن منذ بدء الحرب. ما جعل أطراف الصراع تقارب وباء الكوليرا، ليس باعتباره تحدياً إنسانياً يجب القضاء عليه، وإنما مصدراً جديداً يدرّ لها الأموال، ففي مقابل سماحها للمنظمات الدولية العاملة في الصحة بالعمل في مناطقها، وتسهيل تأشيرات السفر للموظفين الدوليين، تحصل هذه الأطراف على نسب مالية من المنح الدولية، فضلاً عن احتكار المنظمات والمستشفيات التابعة لها في مكافحة الكوليرا.
شجّع فساد سلطات أطراف الصراع ولا مبالاتها حيال موت اليمنيين المنظمات الدولية في ممارسة فسادها على حساب المنح المخصصة لمكافحة الكوليرا، إذ تذهب نسبة كبيرة من هذه المنح في نفقاتٍ تشغيلية، مثل رواتب الموظفين والخبراء الدوليين، وسفريات ترفيهية شهرية
إطالة أمد الحرب وتعميم الفقر وتفشّي وباء الكوليرا أدواتٌ أخرى لأطراف الصراع اليمنية لإنهاك اليمنيين، بغرض القضاء على أي قوة اجتماعيةٍ تتخلق وتدين جرائمهم، إذ انشغل اليمنيون بالتنكيل ببعضهم بعضاً، كما أحدثت حدّة الفقر تحولاتٍ اجتماعيةً خطيرةً في المجتمع اليمني، ربما أقساها تزايد حالات انتحار اليمنيين، وسيلة لرفض حياة الفقر والفاقة، فضلاً عن القدرية المحزنة التي توصف الفقر والحرب وانتشار الكوليرا عقوبةً دينيةً مستحقةً من قوى غيبية.
لم يعد الموت جرّاء قذائف مليشيات الحوثي وعلي عبدالله صالح وغارات طيران التحالف يلائم المسارات التي ذهبت فيها الحرب في اليمن، إذ تنطوي هذه الفظاعات على كثير من الدراما: تنوّع في طريقة الموت، فردية مأساوية، تحديد هوية القاتل، لكن الموت جرّاء وباء الكوليرا يشبه اليمنيين، موتٌ حزين بلا خصوصية ولا خيال، موتٌ جماعي ومنسي، تماماً كالحرب في بلادهم.