الوعي المختل يتسلل الى المعركة

27 يوليو 2014

فتية فلسطينيون يتظاهرون ضد الاحتلال (أغسطس/2003/Getty)

+ الخط -

يعرف الفلسطينيون، أكثر من غيرهم، إلامَ تحيل عبارة "سلطة تحت الاحتلال"، ولدى كل منهم زاوية، أو مدخل، لفهم هذه الحالة الفريدة؟ ولعل وجهاً أساسياً لهذه المعادلة، هو ذاك الاختلال القائم في العبارة؛ بين مقتضيات السلطة وشروطها، والحالة المركبة المعقدة المسماة "تحت الاحتلال". حتى تبدو استقامة العبارة غير ممكنة، إلا باعتبار السلطة جزءاً من الاحتلال، وهذا بالتأكيد ما لا يريده الفلسطينيون، وما لم يتخيلوه حين ناضلوا طويلاً، وكانت السلطة مجرد ممر اضطراري، وصولاً إلى حل نهائي، يكلل بحلم الدولة المستقلة.
الاختلال الأوليّ ولّد اختلالات عديدة على مستويات عملية وذهنية، أهمها اختلال الوعي بالواقع كما هو. صارت السلطة تتحدث عن السيادة والأمن الوطنيين، من دون سلطة على شبر أو رصاصة، صار هنالك اقتصاد بكل ترسانته اللغوية الفخيمة، كالدخل القومي والموازنة العامة والمديونية العامة، في حين لا تملك السلطة جبي ضرائبها بنفسها، وتظل تقدم التنازلات حتى تضمن تحويل ضرائبها إليها، أو الإذن بمرور حوالة، لتغطية فاتورة رواتب موظفيها. صار هنالك خطاب سلطة وشكل سلطة ولغة سلطة، من دون وجودها فعلاً، والأهم ربما ما حدث للكتلة البشرية التي تحكمها السلطة بهذا الاختلال العملي الكبير، ما ولّد اختلالاً في الوعي، وصولاً إلى "وعي سلطة" في مرحلة سابقة على وجودها الفعلي. وزاد الاختلال توسعاً وتركيباً مع الهروب إلى الأمام، وإعلان السلطة دولةً!
تسفر الحرب على غزة، اليوم، عن وجه جديد للاختلال إياه، عنوان هذا الاختلال السافر، هو التعاطي مع تكلفة النضال والمواجهة وأثمانها وكيف تحسب، ولا يبدو أن هنالك ما يبعث على الاستغراب والقلق، من أن يحسب شعب يخوض حرب وجوده تكلفة الحرب، بمنطق الدول المستقرة، وتنتشر قناعات ومناوشات وجدالات من نوع حساب التكلفة، وثمن المواجهة والخسائر البشرية والمادية.
ويعزز من ساهموا في حماية الاختلال الأولي الذي تقوم عليه الدولة الموهومة، أي "سلطة تحت احتلال"، خطابها إعلامياً وخطابياً، ويحاولون تحويله إلى خطاب شعبي، ليبدأ الناس، الذين يفترض أن يراكموا مسارات التضحية، ويكونوا وقوده؛ في التساؤل عن الخسائر والمكاسب بلغةٍ مغلفةٍ، بقشور تسيس وتحاكي ترف مواطني دولةٍ، تجاوز عمر مؤسساتها قرنين أو أكثر.
واللافت المؤلم، هنا، أن تتحدث دولة الاحتلال عن الخسائر والأثمان بمنطق التضحية، أكثر من قطاعات من الفلسطينيين، حتى ليبدو أن هنالك تبادلاً ما في الخطاب بين العدوين، يطلب المحتل/الدولة من شعبه الصبر وتقديم المزيد، ويقول صراحةً، إن الحرب ستطول، وعلى الجهة المقابلة، هناك من لا يتوقف عن الانشغال بإحصاء الخسائر وتضخيمها، والتباكي على الشهداء البعيدين، أكثر من انشغاله بالمسيرة والغاية التي قضوا من أجلها.
تفصح التجربة القريبة والمستمرة عن قاعدةٍ مفادها أن لا شيء أخطر على شعبٍ، يخوض معارك تحرره، أو ثورته أيضاً، من استعارته خطاب الكيانات السياسية المستقلة الراسخة، لأن ذلك يحرمه من أهم مقومات فعاليته وحركيته، يحرمه من تخففه من حسابات الربح والخسارة، ويحرمه من قدرته على الاستثمار جماهيرياً في المستقبل، حيث كل المأمول والمرغوب غير متحصل، ويحتاج إلى ثمن باهظ يقربه. وباستخدام المنطق المختل بأثر رجعي، يمكن التساؤل ببساطة هل كانت هذه "السلطة تحت الاحتلال" تستحق كل شهداء وتضحيات الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وهل تبدو بحسابات الربح والخسارة مشروعاً وطنياً جامعاً يستحق عقوداً من النضال!
في العادة، يدلل الناس على نبل المقصد، ورفعته بحجم التضحيات التي بذلت في سبيله، وأبسط ما يعنيه التهويل من الكلفة والتضحية ورؤيتها منفصلة عن سياقها؛ هو التشكيك في المقصد والحاجة لبلوغه والسعي إليه. وفي حالة فلسطين، إن كانت الغاية هي التحرر والكرامة والاستقلال، فإن من يستكثر عليها التضحيات لا يريدها ببساطة، وهو، بالضرورة، مستفيد من عدم القدرة على تحصيلها وقانع بحالة "السلطة تحت الاحتلال"، لأنها مشروعه هو بكل اختلالاتها.

2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين