27 سبتمبر 2019
الوطن فندقاً
تقترب أشكال الحياة في اللاذقية يوماً بعد يوم ليس مما كانت في العصور الوسطى، بل مما كانت في العصور الحجرية، فتقنين الكهرباء المتزايد، والذي يقترب من انعدامها التام في أحياء كثيرة، ما يعني عدم قدرة البطاريات التي دفع ثمنها كل مواطن سوري مبالغ طائلة على الشحن. يقول بعضهم يائساً: تعودنا، لكن أن تُمعن دولةٌ في إذلال الناس بتلك الطريقة أمر لا يمكن تحمله ولا السكوت عنه. وربما ستلهم معاناة أهل الساحل السوري (أحكي عن اللاذقية حيث أقيم) مبدعين كثيرين من أصحاب الضمير وغير المتملقين والمنافقين بأن يكتبوا أو يرسموا أو ينتجوا أفلاماً وثائقية عن معاناة أهل الساحل من شح الكهرباء.
نزحت عائلات كثيرة من حلب إلى اللاذقية وقراها، تهدمت بيوت معظم هذه العائلات، أو اضطرت أن تبيع منازلها، وكل ما تملك، لتتمكن من استئجار آخر في اللاذقية، والإذعان لجشع الملاكين والتجار، وظاهرة غريبة ومهينة وأشبه بالنكتة أن عائلاتٍ عديدة صارت تترك بيوتها (على الرغم من أجرتها الغالية جداً) وتقصد الفنادق، حيث تتوفر الكهرباء والماء الساخن للاستحمام. استأجرت إحدى العائلات النازحة من حلب بيتاً، لكن الكهرباء لا تنيره إلا أقل من ساعة في اليوم، ولديها طالب جامعي في سنته الأخيرة في كلية الهندسة، وعليه أن يعمل ساعات طويلة لإنجاز مشروع التخرج، وبما أن الكهرباء معدومة في بيته، وبما أن البطارية تعرّضت للتلف بسبب تأكسد موادها وعدم قدرتها على الشحن، اضطر الشاب وأسرته لاستئجار غرفة في فندق. أي أن الأسرة نزحت ثانية من بيتها الذي استأجرته إلى الفندق، وقد تابعت هذه الظاهرة التي اعتقدت أنها قليلة جداً وفردية، فقصدت الفندق، وهو من أكبر فنادق اللاذقية. وسألني صاحبه إن كنت أريد حجز غرفة، وسألته عن أجرة الغرفة، وأخبرني أن الناس صاروا يقصدون الفنادق للاستحمام. شرحت له أنني أرغب أن أعرف وضع زبائنه، ففتح الدفتر الكبير أمامه، وأراني الأعداد الهائلة من السوريين من سكان اللاذقية، أو من النازحين الذين يقصدون فندقه، وغيره من الفنادق، ليستحموا بسبب انقطاع الكهرباء والماء، أو لأن طلاباً عديدين يحتاجون أن يعملوا ساعات طويلة على الإنترنت وجهاز الكمبيوتر. وأراني خواتم وأساور ذهبية وضعتها أمهات عنده رهناً، ريثما يتمكن أحد أقربائهم في الخارج من إرسال حوالة مالية لهم.
الوضع أقرب إلى مسرح اللامعقول. إلى متى سوف يتحمل المواطن السوري كل هذا العيش الذليل، ولا أفق لحل، ولا وعد لحل. سبع سنوات عجاف والدولة تعيد لنا الأسطوانة نفسها أن الإرهابيين يضربون محطات الكهرباء، ولهذا السبب تنقطع الكهرباء. سبع سنوات لم ينقطع زخ الرصاص والصواريخ على حلب وريف دمشق وغيرها من المدن والقرى السورية، ومنها قرية سلمى في ريف اللاذقية التي كما قال أحدهم إنها غارت تحت الأرض، من شدة قصف النظام على الإرهابيين فيها (!). ألا تستطيع روسيا وإيران، وهما من أصدقاء سورية وعشاقها، تأمين الكهرباء لسورية، للساحل الآمن نسبياً على الأقل، كي لا يضطر المواطن للنزوح إلى الفنادق؟
الأدهى أنه لا مسؤول سورياً ولا وزير، ولا وزير الكهرباء، يشعر بالخجل، ويحسّ بالحد الأدنى من معاناة شعبه. ما وظيفة وزير الكهرباء أو الماء أو السياحة في سورية سوى حمل ألقابهم، أو أن يلبسوها كما يلبسون قميصاً. وترى التلفزيون السوري، ليلة عيد الميلاد، يصور احتفالاً مُبهراً حول شجرة ضخمة مزيّنة بالأنوار الملونة، وأهل حلب المتبقين على قيد الحياة يحتفلون ويرقصون، وكأن حلب ليست مسلخاً (كما وصفها بان كي مون) وكأن أطفال حلب لم يتم استخراجهم أشلاء من تحت الأنقاض. ومع ذلك، يستمر مسرح الجنون ووقاحة الكذب إلى درجة تصوير حلب بأنها قبلة الأنظار؟
أين سكان حلب؟ من بقي منهم؟ تعالوا والتقوا بهم في نزوحهم الثاني من بيوتهم التي استأجروها في اللاذقية إلى الفنادق، لكي لا يشهدوا انتحار أولادهم من ذل العيش، لكي يتمكن طالب جامعي من إنجاز مشروع تخرجه، ولكي يتمكّن المواطن من الاستحمام فلا يُصاب بالقمل والجرب، وكي لا يضطر أن ينحني أكثر فأكثر، ويُذل أكثر فأكثر، ليجد نفسه في مرحلةٍ ما يدبّ على أربع، ليجد نفسه تماماً كما في قصة زكريا تامر "النمور في اليوم العاشر" نمراً تحول إلى حيوانٍ يرضى أن يأكل الأعشاب ليعيش. وليصير النمر مواطناً والقفص مدينة. شكراً زكريا تامر، امتلكت، منذ أكثر من نصف قرن، القدرة على التنبؤ بمصير اللاذقية، إذ تحولت إلى قفص، وتحول المواطن السوري إلى هيكلٍ يسكنه اليأس والقهر. أصبح الفندق وطناً، فأي عار وظلم أكثر من ذلك.
نزحت عائلات كثيرة من حلب إلى اللاذقية وقراها، تهدمت بيوت معظم هذه العائلات، أو اضطرت أن تبيع منازلها، وكل ما تملك، لتتمكن من استئجار آخر في اللاذقية، والإذعان لجشع الملاكين والتجار، وظاهرة غريبة ومهينة وأشبه بالنكتة أن عائلاتٍ عديدة صارت تترك بيوتها (على الرغم من أجرتها الغالية جداً) وتقصد الفنادق، حيث تتوفر الكهرباء والماء الساخن للاستحمام. استأجرت إحدى العائلات النازحة من حلب بيتاً، لكن الكهرباء لا تنيره إلا أقل من ساعة في اليوم، ولديها طالب جامعي في سنته الأخيرة في كلية الهندسة، وعليه أن يعمل ساعات طويلة لإنجاز مشروع التخرج، وبما أن الكهرباء معدومة في بيته، وبما أن البطارية تعرّضت للتلف بسبب تأكسد موادها وعدم قدرتها على الشحن، اضطر الشاب وأسرته لاستئجار غرفة في فندق. أي أن الأسرة نزحت ثانية من بيتها الذي استأجرته إلى الفندق، وقد تابعت هذه الظاهرة التي اعتقدت أنها قليلة جداً وفردية، فقصدت الفندق، وهو من أكبر فنادق اللاذقية. وسألني صاحبه إن كنت أريد حجز غرفة، وسألته عن أجرة الغرفة، وأخبرني أن الناس صاروا يقصدون الفنادق للاستحمام. شرحت له أنني أرغب أن أعرف وضع زبائنه، ففتح الدفتر الكبير أمامه، وأراني الأعداد الهائلة من السوريين من سكان اللاذقية، أو من النازحين الذين يقصدون فندقه، وغيره من الفنادق، ليستحموا بسبب انقطاع الكهرباء والماء، أو لأن طلاباً عديدين يحتاجون أن يعملوا ساعات طويلة على الإنترنت وجهاز الكمبيوتر. وأراني خواتم وأساور ذهبية وضعتها أمهات عنده رهناً، ريثما يتمكن أحد أقربائهم في الخارج من إرسال حوالة مالية لهم.
الوضع أقرب إلى مسرح اللامعقول. إلى متى سوف يتحمل المواطن السوري كل هذا العيش الذليل، ولا أفق لحل، ولا وعد لحل. سبع سنوات عجاف والدولة تعيد لنا الأسطوانة نفسها أن الإرهابيين يضربون محطات الكهرباء، ولهذا السبب تنقطع الكهرباء. سبع سنوات لم ينقطع زخ الرصاص والصواريخ على حلب وريف دمشق وغيرها من المدن والقرى السورية، ومنها قرية سلمى في ريف اللاذقية التي كما قال أحدهم إنها غارت تحت الأرض، من شدة قصف النظام على الإرهابيين فيها (!). ألا تستطيع روسيا وإيران، وهما من أصدقاء سورية وعشاقها، تأمين الكهرباء لسورية، للساحل الآمن نسبياً على الأقل، كي لا يضطر المواطن للنزوح إلى الفنادق؟
الأدهى أنه لا مسؤول سورياً ولا وزير، ولا وزير الكهرباء، يشعر بالخجل، ويحسّ بالحد الأدنى من معاناة شعبه. ما وظيفة وزير الكهرباء أو الماء أو السياحة في سورية سوى حمل ألقابهم، أو أن يلبسوها كما يلبسون قميصاً. وترى التلفزيون السوري، ليلة عيد الميلاد، يصور احتفالاً مُبهراً حول شجرة ضخمة مزيّنة بالأنوار الملونة، وأهل حلب المتبقين على قيد الحياة يحتفلون ويرقصون، وكأن حلب ليست مسلخاً (كما وصفها بان كي مون) وكأن أطفال حلب لم يتم استخراجهم أشلاء من تحت الأنقاض. ومع ذلك، يستمر مسرح الجنون ووقاحة الكذب إلى درجة تصوير حلب بأنها قبلة الأنظار؟
أين سكان حلب؟ من بقي منهم؟ تعالوا والتقوا بهم في نزوحهم الثاني من بيوتهم التي استأجروها في اللاذقية إلى الفنادق، لكي لا يشهدوا انتحار أولادهم من ذل العيش، لكي يتمكن طالب جامعي من إنجاز مشروع تخرجه، ولكي يتمكّن المواطن من الاستحمام فلا يُصاب بالقمل والجرب، وكي لا يضطر أن ينحني أكثر فأكثر، ويُذل أكثر فأكثر، ليجد نفسه في مرحلةٍ ما يدبّ على أربع، ليجد نفسه تماماً كما في قصة زكريا تامر "النمور في اليوم العاشر" نمراً تحول إلى حيوانٍ يرضى أن يأكل الأعشاب ليعيش. وليصير النمر مواطناً والقفص مدينة. شكراً زكريا تامر، امتلكت، منذ أكثر من نصف قرن، القدرة على التنبؤ بمصير اللاذقية، إذ تحولت إلى قفص، وتحول المواطن السوري إلى هيكلٍ يسكنه اليأس والقهر. أصبح الفندق وطناً، فأي عار وظلم أكثر من ذلك.