الوسط كرؤية أكثر وضوحاً... لا للمطلقية

22 اغسطس 2018
+ الخط -

إجابتنا عن أسئلة تخصّ جوانب أساسية في حياتنا في هذا العالم وسعينا الدائم نحو صبغها بصبغتنا التي تنطوي على نظرتنا إلى الأشياء وقيمتها بناء على مخزوننا الفكري التقليدي الذي يصنع قوالب جاهزة وأحكاماً مسبقة بما لا يقاس، بل وشعورنا المتطرف بأن هذا هو نهاية كل شيء أو ما يسمى اصطلاحاً "المطلقية" أو "الحكم المطلق" (Absolutism)، متغافلين غالباً عن مدى تعقيد هذه الموضوعات وخصوصاً أننا في زمن المعضلات الكبرى والخيارات الصعبة.

على سبيل المثال جميع محاولاتنا لنقد حاضرِنا وتاريخِنا تنطوي على نموذجٍ وهميّ متخيَّل للغرب يُريدُ النّاقدُ أن يصلَ إليه، والعكس ربما يبدو صحيحاً عند محاولاتنا نقد الغرب فإننا نبني ذلك على تصورنا لأنفسنا من خلال الرجوع لتاريخنا ومآثرنا التي خلت بل وتحكيم النظرية بناء على نظرتنا لذاتنا التاريخية ومرجعيتنا الثقافية الإسلامية، مفترضين أننا متميزون عن محيطنا من دون سلوك مسلك التصادمية مع حقيقة واقعنا وفشلنا مثلاً في تطبيق منهجية الإسلام الواقعية على الحياة والتاريخ.

ثمة تناقض واضح في كلا النموذجين، فالأول يرى أن كلّ مشكلاتنا هي مما اقترفناه نحن نتيجة صفاتٍ كمونية متأصلة فينا، والثاني يرى أنّ مشكلاتنا مصطنَعة ومفروضة علينا بفعل قوة متعينة أو بفعل أخرى خفية تعمل في الظلام، وبغض النظر عن حقيقة الأمر فإن الجدال المحتدم والنقاشات الطويلة لن يضعا نموذجاً متناهياً، بل إن كل محاولة لرصده تبدو غير منطقية بل تنطوي على مغالطة لا يمكن تفنيدها.


هذا التفكير الذي ينطلق من نظرة ثنائية تكون فيها الأمور بالنسبة لنا إما "هذا" أو "ذلك" ولا شيء بينهما، ربما يمثل بخلاً معرفياً ولجوءاً إلى طرق تفكير أبسط تتطلب جهداً أقل، وربما يبدو من وجهة نظر نفسية جنوحاً نحو الراحة وطريقاً مختصراً يقل كل التعقيدات في طريقنا الدؤوب لخلق تصورات تعيننا على استيعاب كل هذه الكم من الأفكار في طريق مواجهتنا للوجود.

من المؤكد أن العالم لا يسير وفقاً لهذه المنهجيات عديمة الحركة، فليس من المنطق أن تتحول هذه الرؤى إلى متناقضات مطلقة لا تعبأ بالظروف وكمية الإشكاليات التي تواجهها هذه المسائل؛ إن النظر إلى الوسط المتمركز في الفراغ الكائن بين قطبي الجذب يخلق رؤية أفضل بما لا يقاس بل ويعيننا على تفهم هذا العالم وفق رؤية أكثر شمولية، رؤية لا تعبأ بما يجترحه الزمن من أحداث وهي انفلات مما قد يخلقه التمركز حول أفكار معينة دون غيرها من ضيق أفق واختلال في ميزان النظر الى الأشياء وبل وتعين على نظرة أقرب إلى الحقيقة.

الوسط يقع بين المادية المقيتة وبين الروحية الحالمة، بين الحاجات الملحة والمثل البعيدة، بين الفردية الطاغية وبين الجماعية الساحقة، بين العقلانية الباردة وبين العاطفية المتأججة، وإن كانت الآية الكريمة (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) تشير بشكل ما إلى أن أهل الوسط هم في مرتبة الشاهد الذي يرى الحقيقة الكاملة التي تتجاوز النظرة ذات البعد الواحد، فإن هذا الوسط يمثل انتصاراً للحياة والواقع الإنساني على جميع الترجيحات التي تفرضها الأيديولوجيات القاصرة ورفضاً للتسويات القهرية من جانب واحد.

وفي هذه الحالة أن تكون وسطياً لا يعني الانتماء إلى حركات وأطر تحمل أفكاراً وسطية ونظرة تشخيصية بناء على مبادئ ترى نفسها بها منفتحة على الجميع، فهي بكل تأكيد متطرفة في نظرتها للآخر ومتعصبة في نظرتها لنفسها وليس القصد النظرة الحيادية فالحياد أحياناً يفقدنا الإحساس ويطيح إنسانيتنا وأخلاقياتنا، سواء بوعي أو بدون وعي وإنما يعني دعوة وواجباً أخلاقياً وموقفاً إيجابياً من حقائق العالم وتخففاً من الازدواجية المقيتة وتجاوزاً للحدود والخطوط الحادة والصرامة في هذا الوجود.

أجدني أهرب من تصنيف الشخصية الوسطية أنها ممن يطلق عليهم "أهل المنتصف"، كوني أَجِد أحيانا أن المنتصف هو نموذج متطرف وعصبية أخرى وتحامل على الغير دفاعاً عن طريق ثالث بطريقة متحيزة ليس الهدف منها منع الاستقطاب بل تزيينه وزخرفته، ما أعنيه هو الحرية، المركب الذي يؤلف بين المتناقضات وهو التطابق بين الطبيعة البشرية وحتمية الطبيعة، وبالتالي فهو منهجية أكثر منه حلاً جاهز ومؤقتاً.

بغض النظر عما أسلفت هؤلاء - أهل الوسط - يمكن أن تكونَ لهم قناعاتُهم الدينيّة والفلسفيّة المتباينة، لكنّهم يشتركونَ في أنّهم ينطلقونَ من واقعِ مجتمعاتِنا كما هي، ويحاولون تشخيصَ مشكلاتِها كما هي متعيّنة في الواقع، أي أنّهم يُقدّمون العملَ على النّظر بلغة الفكر، ويؤمنون ويستدعون مُعالجاتٍ وتنظيراتٍ متعدّدة المصادر، وسننتجُ حلولا أفضل وتنظيرا مُبدِعا، على العكس من ذلك، يبدو أي تسليم لأنماط مسبقة لن يُنتجَ تنظيرا مُبدِعا بل دعاية وخطاباتٍ ترويجيّة سطحيّة، وأقصى ما يحقّقُه سيكون إنجازاتٍ شكليّة مؤقّتة.

إن من يرى نفسه في الوسط مما يصدر عن الوجود من مؤثرات تتفاعل مع مكنوناته هو دائم الشعور بالمسؤولية الأخلاقية حيال صدق إرهاصاته وتوقعاته عما يدور حوله من أحداث.

إنه دائم الوجل من كونه تصالح مع مرور الزمن مع أفكار كان يرفضها ويجاهد ضدها ثم انقلب يقبل عليها بل ويدعو إليها؟ ثم في لحظة انكشاف مع الذات يتساءل، عما إن كان هو ذاته قبل زمن يسير، عن سبب انقلاباته التي لا تنتهي، عما هو مجدٍ ليبقى ثابتاً وينزع صفة السيولة عنه، عن صوت عميق يطوح بوجدانه في رغبته في أن يكون ساكناً في الأقطاب، هناك حيث يقطن الهاربون من قسوة الأسئلة الباحثون عن راحة الخاطر، إنه دائم التساؤل عن معاركه التي لا تنتهي وعن الأثمان المدفوعة.