الوجوه المتعددة للنبوّة*

23 يونيو 2015
غلاف كتاب تاريخية الدعوة المحمّدية في مكة
+ الخط -
ما قام به النبي محمّد كان أمرًا جديدًا غير مسبوق على الإطلاق في التاريخ العربي المديد. لقد دعا إلى طفرة عملاقة على صعيد الاعتقادات والعادات، فكان يلزمه إيمان شديد برسالته وعون من عند الله. وهذه الفكرة حاضرة دائمًا في القرآن. يأتي النصر من عند الله وحده وليس من عند النبي ولا من عند صحابته. كما أن نزول الوحي مستمرّ دائمًا في المدينة، وهو حقًا شديد الارتباط بما كان يجري من أحداث، وكذلك بالجهد التشريعي، لكنه يعلي دائما الواقع والحالة البشرية. وهو يتعلّق دائمًا بالتعليم الأخلاقي والديني. بيد أنه من المؤكّد أن النبوة اللّدنية البادئة في مكة، تلتها نبوة تأمّلية وعقلانية منغرسة في العالم وملتصقة بالأشياء الملموسة، كما تدلّ على ذلك الإجراءات التشريعية مثلًا.
لئن صار ثمة تنميط للحظة التنزيليّة، فهناك مع ذلك تواصل واستمرارية في الخطاب القرآني: تعميق التاريخ القدسي، إقامة الشعائر، الدعوة إلى الأخلاق ومخافة الله، الوعد والوعيد في الآخرة. إذن هناك تواصل للنواة الدينية المركزية للنبوّة، فهذه أبعد ما تكون عن نبوة حربية لا غير، وحتى عن نبوة سياسية كما تريدها المصادر العربية والدراسات الاستشراقية اللاحقة. فقد كان للنبوّة أوجه متعدّدة في فترة المدينة، إذ كانت في البداية نبوّة تحيكم وتهدئة داخل المدينة، ومن هنا جاء مفهوم الأمة في الوقت نفسه الذي ظهرت فيه صورة النبي المنظِّم للتعايش أو للتسالم بين الجماعات، صورة النبي القاضي في النزاعات، النبي الشفيع للمؤمنين عند الله، النبي المدبّر، الذي يحسن التعامل مع المعارضات وقوى النكران.
ثم هناك الوجه الآخر للعمل الموجّه نحو الخارج، المعبّر عنه بالحرب على قريش، والإغارات على البدو، فمهاجمة الواحات اليهودية في المدينة وخارجها. آنذاك ظهر جدلٌ بين الداخل والخارج: كلّ منهما يؤثر في الآخر. وهنا بالذات ظهر العنصر المركزي للوظيفة النبوية التي أدّاها النبي محمّد تدريجيًا، وهذا ما دعاه ماكس فيبير "النبوّة الكاريزيمية". الشاملة في آن واحد لكلّ تلك الأدوار، التي تقوم عليها السلطة أو بالأحرى الهيبة التي اكتسبها النبي محمّد. صحيح أن هذه السلطة ثيوقراطية بقدر ما تستند إلى أوامر الله، ولكن بقدر ما كانت تلك الأمور مستبطنة بدقّة، ونسبيًا حسب الأفراد والجماعات. على كلّ حال لم تكن هناك دولة ثيوقراطية أو غيرها، حتّى مرحلة متقدمّة من الزمن تكون فيها جنين دولة. لا أكثر.

اقرأ أيضاً: دهشة التلقي العربي لموسوعة بريل الإسلامية

آنذاك، ما كان هناك سوى جماعة مؤمنين وإمرة نبوية شخصية وكاريزمية، ترتكز حقًا على كلام الله، لكنها تعاني من فرض نفسها على كامل المدينة، وتعاني أكثر من فرض نفسها خارجها. تنجم الكاريزما عن الصلة بالله على نحو خاص، لكنها تصدر أيضًا عن شخص النبيّ، بقدر ما يتمكّن من فرض أمره وسلطانه: إذ ينتظر من القائد الكاريزمي أن يصون الأمّة وينظم تسالم المجموعات- هنا، المهاجرون والأنصار-، وأن يكون الزعيم المطعم حامي الفقراء، ذلك الذي يعطي الهدايا ويقرّر النصر منذ أن يقرر الحرب. تلكم هي الأدوار التي اضطلع بها النبي محمّد بجهوزية دائمة، باذلًا نشاطًا هائلًا حتى آخر لحظة.
إلا أن المسألة الكبرى المثارة كانت التوفيق بين ارتقابات الأمة – الدينية أولًا والسياسية ثانيًا - في المدينة وبين مراميه الخاصة به، ذات الآفاق الأرحب، مرامي توسيع دينه، مستهدفًا مكة بشكل أساسي. ولم يكن ذلك الأمر سهلًا دومًا، بل على العكس. فلا ننسى أنه دعي إلى المدينة لتهدئة التوترات الداخلية فيها، وبالتالي للقيام بعمل سلمي، وهذا ما قام به أولًا. لكنه حوّل خفية وتدريجيًا طاقات المدنيين نحو مشروعه الخاص : أسلمة الحجاز مهما كلّف الأمر.
من هنا التوتّرات الداخلية والممانعات الشديدة التي عانى النبي محمّد في تخطّيها، لولا نعمة صبره ومهارة كبرى لديه في قيادة الرجال.
* مقتطف من الجزء الثالث من "السيرة النبوية : مسيرة محمّد في المدينة وانتصار الإسلام"
المساهمون