بعد نزوح إلى مدينة كربلاء استمر نحو ثلاث سنوات، عاد محمد عبد الجبار (54 سنة) مع عائلته إلى الفلوجة ليستقر في منزله، ومثله آلاف العوائل التي تركت مخيمات ومدن النزوح بعد تحرير الفلوجة منتصف العام الجاري من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
غير أن عبد الجبار عاد أخيراً إلى كربلاء مجددا. ليس نازحا هذه المرة بل زائرا يحمل هدايا مختلفة تعبيرا عن شكره للرجل الذي استضافه في ملحق بداره من دون معرفة مسبقة. يقول عن ذلك إن "الهوية العراقية مهما علا تراب الطائفية عليها ستبقى حاضرة".
وتقدر تقارير محلية عراقية عدد النازحين من مدن غرب وشمال ووسط العراق إلى المدن الجنوبية بأكثر من ربع مليون نازح، وأغلب هؤلاء حصلوا على استضافة كريمة من السكان على عكس ما يحاول البعض وصم المشهد العراقي به من صورة طائفية فقط.
يؤكد القيادي بالتيار المدني العراقي، أحمد الحمداني، أن الحالة الطائفية في العراق "سياسية لا شعبية. تحرص الأحزاب على إدامتها في خطابها اليومي لأهداف انتخابية خالصة"، ويضيف لـ"العربي الجديد"، أن "علاقة العراقيين فيما بينهم لا يشوبها سوى أبواق الفتنة التي تنفخ كل يوم عبر وسائل الإعلام".
ويتابع "الجميع يعلم أن المتصدرين للمشهد المسلح أو السياسي اليوم لا يمثلون العراقيين، وهذا الشيء يمكن أن يبعث التفاؤل بعراق مستقر وآمن عما قريب".
استقبلت فاطمة الطائي، السبعينية الكربلائية، ضيوف الأمس عند باب منزلها، خرجت متكئة على ذراعي حفيديها وهي ترى سيارة عبد الجبار وأسرته تصل إلى باب المنزل مرة أخرى بعد عودتهم للفلوجة.
تقول الطائي لـ"العربي الجديد"، إن أفراد تلك العائلة دخلوا قلبها، وهي الوحيدة التي حزنت عند تحرير الفلوجة لأنها تعلم أنهم سيغادرون إليها، وتضيف بلهجتها الكربلائية "لعن الله كل من فرقنا. نحن أهل". وتفرح الطائي بقطعة قماش كانت حصتها من هدايا العائلة الفلوجية وتؤكد أنها أثمن هدية وصلتها منذ سنوات.
في محافظة ذي قار، تبرع مجلس العشائر بإيواء جميع العوائل النازحة من الموصل في منازلهم. يبدو المشهد أكثر وضوحا حيث الصلاة في المساجد موحدة والمقاهي عامرة كما كانت تماما قبل الاحتلال. تضم جميع ألوان العراقيين الذين لا تجمعهم سوى النارجيلة وشاي النعناع وكاسات الباقلاء الحارة.
يقول المختار محسن الساعدي، أحد وجهاء مدينة الناصرية لـ"العربي الجديد"، "كما ترى هنا الكثير من أهل الأنبار والموصل وصلاح الدين. نحن نحبهم بل والكثير لا يتمنى أن يرحلوا فقد اعتدنا عليهم وعلى جلساتهم".
ويتابع "لا فرق بين سني وشيعي. كلنا في سفينة واحدة، والمذهب لم يكن يوما مفرقا للشعوب، لكن من يتصدرون المشهد الديني والسياسي هنا هم من حولوه إلى أداة تفريق".
أبو عمر أحد رواد المقهى، وهو من سكان الموصل لكنه هرب من تنظيم داعش عام 2015، واستقر الحال به في الناصرية، يقول "لم ألحظ أي طائفية أو عنصرية، بالعكس. جئت بملابسي فقط مع أسرتي، والآن أنا أعمل في متجر بأجر يومي وأملك منزلا فيه كل شيء وأغلب الأثاث تبرع به أشخاص لا أعرفهم أو من الجيران".
وأخيراً، وجه شيوخ عشائر ووجهاء من عدة محافظات عراقية غرب وشمال البلاد، عبارات شكر وثناء على استقبال عشائر الجنوب للنازحين من محافظاتهم. يقول الشيخ عواد الدليمي لـ"العربي الجديد"، "من استضاف أهلنا لا يحتاج عبارات شكر، لأنه فعل ذلك بدافع وطني وعربي أصيل. لكن الحق شكرهم والثناء عليهم".
ويقول الشيخ حسين العلي، أحد شيوخ بابل "نحن عرب قبل كل شيء، والعربي من طبعه إغاثة الملهوف وإكرام الضيف، فكيف إذا كان الملهوف والضيف عراقي". ويتابع لـ"العربي الجديد"، "كل ما نمر به الآن سينتهي قريبا إن شاء الله، كما سيرحل دعاة الخطاب الطائفي ويعود العراق كما كان سلة فواكه من قوميات وديانات ومذاهب عاشت على مدى عشرات القرون بسلام".