الوثائق السرية لحرب أكتوبر ترى النور

06 أكتوبر 2015

جنود مصريون في قناة السويس أثناء الحرب (Getty)

+ الخط -

أخيراً، أصبح بمقدور المواطن المصري أن يقرأ الوثائق الرسمية لحرب أكتوبر 1973، لكنه، للأسف، سيقرأ فقط الوثائق الرسمية الإسرائيلية للحرب، بعد أن بدأت تصدر، أخيراً، مترجمة إلى اللغة العربية عن المركز القومي للترجمة، بفضل مجهود فريق من المترجمين، أشرف عليه الدكتور، إبراهيم البحراوي، أما الوثائق الرسمية المصرية عن الحرب، فلا زالت كشأن وثائق كل الحروب التي خاضتها مصر، ممنوعة من التداول على أي نطاق.

ومع أنه لا يمكن حساب شيء في مصر بالعقل، لكن، لو أننا تناسينا ذلك، وحسبناها خطأً بالعقل، لوجدنا أنه ربما كان ممكناً فهم حظر نشر وثائق الحروب التي انتهت بالهزيمة، مهما مضى عليها الزمن، لأن إتاحتها للمؤرخين والباحثين قد تساعد على كشف مأساوية الطريقة التي كانت، ولا زالت، تدار بها دولة العقلية العسكرية، لكن منع وثائق الحرب الوحيدة التي انتهت بالانتصار، سيظل أمراً عصياً على الفهم، خصوصاً بعد أن انتفت برحيل (شخص) حسني مبارك عن الحكم أسباب الإبقاء على الرواية (المباركية ـ الصفوت شريفية)، التي ظلت أكثر من ربع قرن، تبالغ في تمجيد (الضربة الجوية) وتجعلها أهم أسباب النصر المبين، وبعد أن ردت القوات المسلحة، أخيراً، الاعتبار رسميا للفريق، سعد الدين الشاذلي، الذي ظلت روايته عن الحرب التي كتبها في مذكراته الشهيرة، مقموعة ومهمشة سنوات طويلة، وهو ما يدفعنا لأن نسأل، بجدية، لا تخلو من السذاجة: هل لاستمرار حجب وثائق نصر أكتوبر علاقة بوجود تفاصيل في تلك الوثائق، تشوش صورة النصر المبين، أو تكشف عن حالات ارتباك سياسي أو عسكري في إدارة الفترة، التي أعقبت لحظات العبور التي لا يختلف إلا مغرض أو جاهل في أنها كانت مجيدة وأسطورية؟ أم أن الأمر برمته ليس له تفسير مقنع، سوى حالة الفوضى والإهمال التي تسود مصر منذ سنين، وتجعل قرار نشر الوثائق مرتبطاً بإرادة سياسية لشخص وحيد، هو شخص القائد الأعلى للقوات المسلحة، الذي لو "طلبت معه" الآن أن ينشر كل وثائق حرب أكتوبر لفعل، ولو لم "تطلب معه" لما حدث ذلك، حتى يأتي قائد أعلى آخر "تطلب معه الحكاية"، فيقرر النشر.  

استمرار حجب وثائق حرب أكتوبر عبر السنين الماضية جعل بعضهم يطرح، في أكثر من مناسبة، سؤالاً عما إذا كانت تلك الوثائق لا تزال موجودة بالفعل، ولم يتم إتلافها في عصر أنور السادات لتخليد الرواية الرسمية المعتمدة التي أعيدت كتابتها بصريا من قبل، حين تم حذف الشاذلي من صورة غرفة عمليات الحرب، واستبداله بمبارك، في حركة بالغة الرخص، لكنها أيضا كانت بالغة التعبير عن عمق الانحطاط السياسي الذي وصلت إليه مصر، في ظل حكم عسكري بنكهةٍ مملوكية. بالطبع، لن يستطيع أحد أن يعرف ما إذا كانت كل الوثائق موجودة بالفعل على حالتها الأصلية أم لا، خصوصاً الوثائق العسكرية. ولا أظنك محتاجاً لسؤالي عن سبب ذلك، خصوصاً وأنت تعلم، إذا كنت من المتابعين للأمر، أن نشر وثائق إدارة الدولة في فترة الحرب من (الجناح المدني من الحكومة)، إن صح التعبير، ظل محظورا لأسباب غامضة، إلى أن نشرت دار الوثائق القومية، قبل حوالى عامين، مجموعة وثائق عن تعامل الحكومة مع فترة الحرب، في كتاب بعنوان (مصر في قلب المعركة). كما لعلك تعلم كيف عرفنا، بعد ذلك بعام، ومن خلال مصادفة أخرى، أن جهاز المخابرات العامة كان يمتلك أرشيفا موثقاً ومفهرساً بشكل علمي عن فترة حرب أكتوبر، حيث أشار إلى ذلك وزير الخارجية السابق، أحمد أبو الغيط، في مذكراته (شاهد على الحرب والسلام)، والتي حكى فيها وقائع انتدابه من وزارة الخارجية إلى مؤسسة الأمن القومي، لأداء مهمة أرشفة وفهرسة وثائقها عن الحرب، وهي وثائق ربما كانت أشد خطورة من الوثائق العسكرية، لأنها تحوي نصوص المحادثات، التي أجراها الرئيس السادات مع المسؤولين الأميركيين، والتي كان لها بالغ التأثير على النتائج العسكرية للحرب، كما تواتر ذلك في شهادات ومذكرات القادة العسكريين للحرب، مثل المشير محمد عبد الغني الجمسي، والفريق سعد الدين الشاذلي، واللواء عبد المنعم خليل، وبالطبع نحن أذكى من أن نسأل عن مصير هذه الوثائق، وهل لا زالت موجودة بحالتها الأصلية، أم "أخنى عليها الذي أخنى على لُبدِ".

كل هذه الحيرة المريرة التي يثيرها استمرار حجب وثائق الانتصار الأهم في تاريخ العسكرية المصرية، والتي كتب عنها مؤرخون كثر من قبل، في مقدمتهم، الدكتور خالد فهمي، في أكثر من مقال له، ستتضاعف، وأنت تقرأ الجزء الأول من الوثائق الإسرائيلية عن الحرب، والتي تحوي وثائق القيادة السياسية، فترى كيف كفلت إسرائيل لمواطنيها، ولو بعد سنين، حقهم في المعرفة، على الرغم من أن حرب أكتوبر ظلت تشكل ذكرى مؤلمة للعسكرية الإسرائيلية، حيث لم تُخفِ إسرائيل أبداً مرارتها من إخفاقها التاريخي في توقع قرار العبور، الذي تهاوى بعده خط بارليف، الذي ظل سنوات يكتسب صفة أسطورية لدى الإسرائيليين، ليظل ذلك الإخفاق المخابراتي والعسكري حاضراً عبر السنين، على الرغم من كل محاولات تسليط الضوء على نجاح إسرائيل في امتصاص آثار ضربة العبور، وتوجيهها ضربات موجعة إلى الجيشين، المصري والسوري، كان في مقدمتها الثغرة الشهيرة، وهو ما ساعد إسرائيل كثيراً في فرض شروطها العسكرية في مرحلة التفاوض، لتنتقص من السيادة المصرية على شبه جزيرة سيناء بشكل مهين، لا زالت مصر تدفع ثمنه.  

في مقدمته (الحماسية)، يشير الدكتور إبراهيم البحراوي، المشرف على ترجمة الوثائق ونشرها، إلى حجب الإسرائيليين أهم وثائق حرب أكتوبر سنوات طويلة، "لكي يخفوا حقائق الانتصار المصرية، ويحفظوا معنوياتهم من الانهيار"، قبل أن يبدأ الإفراج تباعاً عن وثائق الحكومة والجيش، في الذكرى الخامسة والثلاثين للحرب، بعد أن تخطت فترة الحظر المسموح بها في قانون تداول المعلومات، لتصل عملية نشر الوثائق الإسرائيلية إلى ذروتها عام 2013 في الذكرى الأربعين للحرب، حيث بلغ عدد الوثائق الرسمية المنشورة 118 وثيقة تقريبا، يمكن تقسيمها إلى مجموعتين: الأولى تضم محاضر اجتماعات المجموعة القيادية الوزارية لإدارة الحرب بين يومي 6 أكتوبر و9 أكتوبر 1973، والثانية تضم شهادات المسؤولين السياسيين والعسكريين والقادة الميدانية أمام لجنة إجرانات التي تشكلت بعد الحرب، للتحقيق في أسباب التقصير الذي أدى إلى الهزيمة، والتي نشرت محاضرها رسمياً أول مرة عام 2012.

لكن الدكتور البحراوي يفاجئ قارئ الوثائق المترجمة بأن صحيفة "يديعوت أحرونوت" سبق لها أن نشرت المجموعة الأولى من الوثائق، فضلا عن أن الجيش الإسرائيلي نشر بعد ذلك كل هذه الوثائق على موقعه الإلكتروني. نعم، ما قرأته للتو صحيح، للجيش الإسرائيلي موقع إلكتروني، ينشر عليه وثائق سرية، وليس مجرد بيانات إنشائية مليئة بالعبارات الطنانة. لكن البحراوي يضيف أن الجيش الإسرائيلي وضع "عقبات فنية تحول دون الإطلاع عليها بسهولة، بالنسبة للباحثين المصريين، تحديداً، والداخلين إلى الموقع من مصر"، ومن دون أن يشرح طبيعة هذه العقبات، يشير إلى جهد قام به فريق من خبراء المواقع الإلكترونية للتغلب على تلك العقبات، بفضل دعم قدّمه له شخص وصفه بأنه "رفيق الخندق والوجدان الوطني، الأستاذ ع. م"، من دون أن يشرح سر ذكر اسمه بالأحرف الأولى، ليترك للقارئ تخمين أن هذا الشخص على علاقة ما بجهاز الأمن القومي التي توجب على منتسبيها حظر هوياتهم، إلى أن يصلوا إلى عمر معين، ويصبحوا خبراء استراتيجيين، ويصبح من حقهم الظهور علناً لممارسة الهذر المؤامراتي والثرثرة الاستراتيجية.

وربما إذا صح كون الأستاذ ع. م. منتمياً بالفعل إلى جهاز الأمن القومي، فلعل قارئ الوثائق يتمنى على البحراوي أن يطلب منه نقل اقتراح إلى جهاز الأمن القومي، مفاده ضرورة الاستفادة من التجربة الإسرائيلية، وإتاحة وثائق نصر أكتوبر للمواطنين المصريين، في موقع إلكتروني يستطيع المواطن المصري تصفحه، ويصعب على الإسرائيليين دخوله، إلا باللجوء إلى دعم فني خاص (!)، بما أن الإسرائيليين بالتأكيد لم يسمعوا عن أبسط القواعد الإلكترونية التي تتيح لمتصفح الإنترنت تغيير هوية البلد التي يتصفح منها مواقع الإنترنت.

على أية حال، أشار الدكتور البحراوي في المقدمة إلى حرصه على ترجمة الوثائق، ليدرسها "ضباطنا في القوات المسلحة ورجال مخابراتنا وباحثونا السياسيون"، لكنه لم يجب على تساؤل سيرد حتماً في خاطر القارئ، هو: إذا لم يكن من حق المواطن المصري أن يطلع على وثائق أبرز انتصارات جيشه، فهل يستطيع، أصلاً، ضباط القوات المسلحة والباحثون السياسيون المصريون أن يطلعوا على تلك الوثائق، كما يطلع عليها نظراؤهم في إسرائيل؟ لكي ينتهي، أخيراً، هذا التناقض الرهيب والمهين، الذي يحجب حق المواطن المصري في المعرفة، ولو حتى عن حربٍ انتصر فيها، إذا لم يكن من حقه أبداً أن يعرف لماذا انهزم في الحروب التي سبقته، والتي لا زال يدفع أثمانها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً؟.

ينبغي التنبيه إلى أن إسرائيل لم تكن شفافة تماماً في إتاحة وثائقها لمواطنيها، كما يخبرنا الدكتور البحراوي في مقدمته، فبرغم مرور كل هذه السنين على الحرب، حذفت الرقابة العسكرية الإسرائيلية مواضع عديدة في الوثائق، خصوصاً ما يشير منها إلى مصادر معلوماتها الاستخباراتية، لتتراوح أحجام المحذوفات بين كلمة وعدة صفحات، كما قررت الحكومة الإسرائيلية حجب عدد غير محدد من وثائق الحرب، استنادا إلى قانون يمد فترة حظر نشر وثائق الدولة إلى خمسين عاما، وهي معلومة ستواصل إثارة شجونك، حين تتذكّر أن قرار حظر نشر الوثائق في مصر ليس محكوماً بأي قانون ولا بأي مدة، بقدر ما هو محكوم برغبة ومزاج القائمين على المؤسسات العسكرية والأمنية، الذين احتكروا كل شيء في مصر، "ما جتش على الوثائق يعني؟".

(في الأسبوع المقبل، بإذن الله، أبدأ استعراض بعض ما احتوت عليه الوثائق المترجمة، ووجدته شديد الأهمية، وأثار بداخلي مشاعر الفخر والتقدير لبطولات الجيش المصري في حرب أكتوبر، التي أذهلت القادة الإسرائيليين، كما تكشف الوثائق، وتبقى التحية واجبة للدكتور، إبراهيم البحراوي، وفريق المترجمين المكون من الأساتذة منى ناظم ـ سعيد العكش ـ منصور عبد الوهاب ـ أشرف الشرقاوي ـ بدوي محمد ـ مصطفى الهواري ـ عادل مصطفى ـ سعد سنجر ـ حسن عبد البديع ـ عبد الله حمدي، فضلا عن تحية واجبة للدكتور، أنور مغيث، الذي صدرت الترجمة في ظل رئاسته المركز القومي للترجمة، الذي كان ولا يزال من النقاط المضيئة القليلة في الظلام الدامس الذي يكتنف مصر).

 belalfadl@hotmail.com

 

   

 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.