على مدى عقود، كان العراقيون يوجّهون إلى رجال الشرطة نظرة دونية، فالمنتمي إلى سلك الشرطة من دون أن يكون برتبة ضابط هو "واشر" بالنسبة إليهم. وتسمية "واشر" بقيت شائعة في العراق حتى أعوام قريبة قبل أن تبدأ بالتلاشي، فالمواطنون يرون اليوم أنّ موظفي الدولة بمعظمهم صاروا "واشرات".
و"الواشر" بحسب الدارج في البلاد، قطعة معدنية توضع بين جزءين من أجزاء الآلات الكهربائية أو الميكانيكية لتمنع احتكاكهما وتزيد من قوة الربط بينهما. كذلك كان العراقيون إبان العهد الملكي في البلاد يطلقون تسمية "واشر" على العملة النقدية المعدنية من فئة 50 فلساً. في ذلك الوقت، كان السائد بين الناس أنّ رجالاً من الشرطة يتلقون الرشوة للتغاضي عن أمر ما أو لإنجاز مهمة معينة للمواطنين. وكانت الرشوة التي يتقاضاها الشرطي بحسب ما كان معروفاً في حينها، الدرهم المعدني الذي كان يطلق عليها "واشر".
ويفيد الباحث في التراث العراقي مجيد العزاوي بأنّ "الشرطي هنا يعمل عمل الواشر المعدني الذي يوصل بين قطعتَين ويمنع الضرر - ما يطلق عليه العراقيون تسهيل الأمور - ويتقاضى الدرهم الذي يعرف بين العراقيين بالواشر. من هنا، صحّ أن تُطلق عليه تسمية واشر". يضيف أنّ الشرطي في البداية كان يُلقّب بـ"أبو الواشر"، وتدريجياً صار يطلق عليه "واشر".
ويوضح العزاوي لـ"العربي الجديد" أنّ "كلمة واشر كانت وعلى الرغم من انتشارها الواسع، تُعَدّ معيبة بحق الشرطي ومهينة كذلك. وكان العراقيون يتحدثون مثلاً عن فلانة تقدّم واشر لخطبتها. وهذا يُعَدّ تصغيراً من شأن الخاطب، وتلميحاً إلى أنّ من تقدّم لخطبتها شخص وضيع في المجتمع". ويتابع أنّ "الرشوة لم تكن منتشرة حينذاك، ومن يُعرَف بتقاضيه الرشوة يُحتقر من قبل المجتمع، بخلاف ما يحصل اليوم".
اليوم، لم تعد تسمية "واشر" تطلق على أفراد الشرطة إلا قليلاً أو للتندر فقط. وبحسب العراقيين فإنّ فعل الواشر صار منتشراً في مختلف قطاعات الدولة. ويقول مهدي الصالح، وهو عميد متقاعد خدم في سلك الشرطة من ستينيات القرن الماضي حتى تسعينياته، إنّ "المنتمين إلى سلك الشرطة من ذوي الرتب الدنيا هم بطبيعة الحال من عائلات فقيرة، ولا يكفي الراتب الذي يتقاضاه الواحد منهم لسدّ متطلبات أسرته. لذلك كان يتقاضى من المواطنين مبالغ بسيطة جداً في مقابل إنجاز مهمات ممنوعة لكنّها غير مضرّة للدولة أو للمجتمع".
ويوضح الصالح لـ"العربي الجديد" أنّ "من هذه المهمات توصيل طلبات صحية أو غذائية لمسجونين في داخل مراكز الشرطة، وتسهيل مقابلة ذويهم لهم، وتسهيل إجراءات معاملات معيّنة من خلال تسريعها، إذ إنّ الدوائر الحكومية تعاني من روتين قاتل". يضيف أنّ "هذا الأمر كان معروفاً ونحن كضباط في الشرطة نعلم بذلك من دون اتخاذ أيّ إجراء يردع الشرطي المخالف. لكنّنا كنّا باستمرار نهددهم بالعقوبة حتى لا يتمادوا في هذه الخروقات ويصلوا إلى ما هو أخطر. ولعلّ غضّ النظر عن مثل هذه الخروقات البسيطة كان مساعدة منّا للشرطي حتى يوفّر احتياجات أسرته". لكنّ الصالح لا ينكر "وجود أفراد في الشرطة كانوا يخرقون القانون متسبّبين في ضرر على المجتمع في مقابل الرشوة. لكنّ هؤلاء كانوا قلة قليلة جداً، وقد صدرت بحقّ كثيرين منهم عقوبات بالسجن والطرد من سلك الشرطة بعد ثبوت تلقيهم رشوة في مقابل أعمال تضرّ بالصالح العام".
في اطلاع سريع على الوضع العراقي الراهن، خصوصاً التحوّل الكبير الذي شهدته البلاد بعد غزوها في عام 2003، يتّضح أنّ الرشوة صارت منتشرة بشكل كبير في دوائر الدولة، ومن بينها الأجهزة الأمنية. وصار أفراد كثيرون من الشرطة برتب متدنية، تصل مداخيلهم الشهرية إلى ما يعادل ما يتقاضونه من رواتب خلال عام كامل. هذا ما يؤكده ضابط في وزارة الداخلية، تحفّظ عن ذكر هويته لـ"العربي الجديد"، قائلاً إنّ "أفراداً من الشرطة يدفعون مبالغ طائلة تصل إلى أكثر من 50 ألف دولار أميركي لنقلهم إلى مواقع معيّنة، من قبيل المفارز التفتيشية على الطرقات الخارجية. من خلال ذلك، يتمكّنون من فرض مبالغ معينة على سائقي الشاحنات للسماح لهم بالمرور وعدم تأخيرهم". يضيف الضابط نفسه أنّ "مبالغ طائلة يتقاضاها أفراد من الشرطة لتوفير الراحة لسجناء داخل مراكز الاعتقال المؤقت"، مشيراً إلى أنّ "الشرطي اليوم لم يعد ذلك الواشر الذي يتلقى مبلغاً صغيراً، بل صار يعيش حياة رفاهية بسبب الرشاوى الكبيرة".
ويتحدث مواطنون عراقيون لـ"العربي الجديد" عن حنينهم لـ"أيام الواشر"، فهي بحسب رأيهم بسيطة وسهلة وتخلو من الابتزاز. تقول فاطمة محمد الحمامي (47 عاماً) إنّها كانت في طفولتها تنادي على أيّ شرطي تراه في الشارع "عمو واشر" مبيّنة أنّ "كثيراً منهم كانوا ينزعجون من هذه العبارة". تضيف أنّ "كبار قادة البلد صاروا اليوم واشرات. الرشوة صارت وباءً انتشر في البلاد". أمّا سهام ناجي (53 عاماً) فتقول إنّ "الواشر في السابق، مهما بلغت درجة تعاطيه الرشوة فهو أنزه من عدد كبير من الموظفين في دوائر الدولة اليوم. هؤلاء يفرضون على المواطنين دفع المال في مقابل تأدية وظيفتهم وإنهاء معاملتهم". تضيف أنّ "لجوء الموظفين إلى الفساد سببه فساد الطبقة الحاكمة التي تُعَدّ أفسد من واشرات أيام زمان".
تجدر الإشارة إلى أنّ العراق حافظ في خلال السنوات الأخيرة على مركز متقدّم على قائمة أكثر الدول فساداً في العالم، بحسب مؤشر مدركات الفساد الذي تطلقه منظمة الشفافية العالمية في كل عام.