الهوية اللغوية... صراعات داخل المجتمع المغربي

17 يناير 2018
اللغة جزء من صراع الهوية بين العرب والأمازيغ(فرانس برس)
+ الخط -

يعيش المجتمع المغربي على وقع "صراع لغوي" بين اللغات العربية والفرنسية والأمازيغية واللهجة المحكية أيضاً، بالترافق مع صعود نجم لغات عالمية أخرى من قبيل الإنكليزية، لا سيما في الجامعة.

صراع اللغات العربية والفرنسية والأمازيغية في المغرب يتخذ في أحيان كثيرة خلفيات عدة، تمتد مما هو اجتماعي وتمرّ بما هو لغوي وثقافي، وتنتهي بما هو سياسي. للدستور المغربي كلمته في مسألة اللغات، إذ ينصّ على أنّ "العربية هي اللغة الرسمية للدولة، وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها"، و"الأمازيغية تعدّ أيضاً لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيداً مشتركاً لجميع المغاربة من دون استثناء". يتابع الدستور أنّ "الدولة تسهر على انسجام السياسة اللغوية، وعلى تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولاً في العالم"، مع ذلك فإنّ طغيان الفرنسية والغبن الحاصل في حق الأمازيغية وتهديد العربية يفتح العديد من المواجهات.

دوافع الصراع ومظاهره

بالرغم من أنّ الدستور ينص على "لغات متعاونة" في ما بينها، فإن الواقع في المجتمع والإعلام والتعليم يظهر كثيراً من المصادمات بين تيارات اللغات العربية والفرنسية والأمازيغية على وجه الخصوص، إذ يسعى كلّ طرف إلى إعلاء مكانة اللغة التي يناصرها، إما عبر مداخلات الجمعيات أو مقترحات القوانين أو مطالب الناشطين.

أفضى "الصراع اللغوي" في المغرب إلى نوع من اللخبطة (الخلط) في لسان المواطن الذي لا يكاد يثبت على الحديث بلغة واحدة، حتى أضحى كلام الفرد مزيجاً من الفرنسية والعربية والإنكليزية والأمازيغية كذلك، فيما تهيمن الفرنسية على عدد من برامج الإعلام، والمراسلات والتعاملات الإدارية. وهو ما دفع ناشطي الأمازيغة إلى طلب تعزيز مكانة لغتهم لتصل إلى مصاف العربية والفرنسية خصوصاً.

يعزو الدكتور عبد العالي مجدوب، اللغوي والأستاذ بجامعة مراكش، ما يشهده المغرب من أشكال الصراع المتعلق بالهوية اللغوية إلى "الاستعمار الفرنسي وجراحاته، وما خلفه في المواطنين من تشوهات وانحرافات حضارية وثقافية، ومنها ما يصفه بالتشوه اللغوي الذي يطبع مختلف نواحي حياة المغاربة". يتابع مجدوب في حديثه إلى "العربي الجديد": "بعد الاستعمار الغاشم، الذي كان، وما زال، حريصاً على خدمة لغته وتفوق حضارته وإخضاع الشعوب الواقعة تحت حكمه بالتعليم وغيره، لتسير وفق إرادته، جاء النظام السياسي الذي خلف المستعمر في تدبير شؤون الناس، ومنها الشأن التربوي التعليمي فاستمر الوضع على ما هو عليه". يتابع أنّ هذه العوامل ساهمت في طمس معالم الهوية اللغوية الحقيقية للمغاربة، ونشأت على هامشها نزعات جديدة ما زالت تسعى لتكون لها الغلبة، أيديولوجياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً". يشير إلى ما يسميها "النزعة الأمازيغية التي ما زال أصحابها يسعون إلى التشكيك في الهوية العربية المغربية، وافتعال الصدامات التي لا تنتهي".

اللغة الفرنسية ما زالت طاغية (آلان جوكار/ فرانس برس) 

تدافع وليس صراعاً

من جهته، يقول الباحث الأمازيغي لحسن أمقران إنّ "الأمر يتعلق أكثر بتدافع في الساحة بين كلّ اللغات التي يوظفها المغاربة، فهو يتجاوز اللغتين العربية واﻷمازيغية ليشمل باقي اللغات من فرنسية وإسبانية وإنكليزية وغيرها"، مضيفاً أنّ "تخصيص اللغتين الرسميتين بهذه المعركة لا ينم عن نظرة شمولية للسوق اللغوية المغربية".

يشدد أمقران في حديثه إلى "العربي الجديد" أنّه "يجب النظر إلى اللغتين من حيث كونهما شقيقتين متكاملتين يتعين عليهما التحالف لصدّ العولمة اللغوية". ويدعو إلى ضرورة أن يكون "جنود" اللغتين أكثر حكمة وذكاء، وأن "يستحضروا مبدأ اﻹنصاف وتكافؤ الفرص بين اللغتين للتأسيس لعدالة لغوية عوضاً عن اﻻنتصار للتعصب الأيديولوجي".

يتابع أنّ "إصرار بعض من يُنصبّون أنفسهم جنوداً للغة العربية في المغرب على وصف اللغة اﻷمازيغية باللهجات البربرية، ومحاولة ربطها بالمستعمر والحديث عن التشويش والعمالة والفوضى اللغوية، كلّها مواقف متطرفة عبثية تسيء إلى تاريخ المغرب وإشعاعه الحضاري وقيم التسامح والتعايش".

ويذهب أمقران إلى أنّ "اللغة العربية هي ملك جميع المواطنين المغاربة، وإن كنا من جنود اللغة اﻷمازيغية، كما أنّ هذه اللغة اﻷمازيغية هي ملك للمنافحين عن اللغة العربية مهما تنكّروا لها"، منتهياً إلى القول إنّ "كلّ محاولة لوسم المغرب بلون لغوي وحيد مآلها الفشل".


العربية والمحكية

يقول الباحث في المعرفة صلاح بوسريف لـ"العربي الجديد" إنّه "لا وجود للغة العربية في الحياة العامة بالمغرب، ليس لأنّ هذه اللغة لا تصلح للتداول والحوار والتبادل، بل لأنّ الدولة غير راغبة في وضعها في سياق الحياة العامة، ولا حتى في المدرسة والإعلام، بالصورة التي تجعل منها لغة حياة".

ويبين بوسريف أن العربية في الألواح الإشهارية، وفي واجهات الحافلات ووسائل النقل المختلفة مرفوضة، واللغة العامية المحكية هي التي تستولي على هذه الواجهات، ملاحظاً أن من يدعون إلى حذف العربية مقابل العامية، هم من يملكون شركات الإعلانات، لذلك فهم يفرضون العامية، بالرغم من أنّها من الناحية القانونية غير مسموح بها، إلى جانب كتابة العربية بالحروف اللاتينية.

يلاحظ بوسريف أنّ "العامية لغة خشنة لا تعبر عن مستوى مقبول من الاحترام للمستمعين، خصوصاً من يرون فيها كثيراً من جرح اللسان، فهي تخدش الأذن، وهي عنيفة في طريقة استعمالها، وفي مفرداتها التي لا مرجع لها في العربية، ولا في قيم الحوار والكلام في المجتمع نفسه".

وحول المسؤول عن "تردي العربية" يوضح بوسريف أنّ "الدولة هي المعنية بهذا الوضع الكارثي الذي تعيشه لغة الضاد، والذين يتولون أمر البلاد يحتقرون العربية، ولا يعتبرونها لغة حية، فهم يتكلمون الفرنسية، التي لا يعرفها كثير منهم، في عمقها المعرفي والجمالي، كما لا يعرفون أنّ أصل العامية في اللسان المغربي، بصورة خاصة، هي العربية وليس غيرها".

تعددية لغوية في الإعلام (عبد الحق سنّا/ فرانس برس) 

العربية والأمازيغية

وفي المغرب هناك اتجاه واضح لتغليب كفة العربية على حساب الأمازيغية، يناصره كثير من الأحزاب السياسية، وهو ما يعتبره الباحث الأمازيغي أمقران أمراً طبيعياً في هذه المرحلة على اﻷقل، بسبب عاملين أساسين، "اﻷول يتعلق بالمرجعية الفكرية أو اﻷيديولوجية لهذه اﻷحزاب". ويشرح: "عندما نتحدث عن حزبي اﻻستقلال والعدالة والتنمية فإننا نتحدث عن أحزاب بمرجعية دينية تقدس اللغة العربية وتؤمن بأفضليتها، أما بعض أحزاب اليسار فهي تلتزم دولياً بالقومية العربية وهي مرجعية معروفة تسعى مبادئها إلى خلق وطن عربي من المحيط إلى الخليج".

العامل الثاني بحسب أمقران هو أنّ شرائح واسعة من الطبقة السياسية المغربية ما زالت حبيسة التعامل الرسمي مع اللغة اﻷمازيغية خلال مرحلة اﻻنتهاكات الجسيمة والحظر الكلي على هذه اللغة، واليوم تتهرب من اللغة اﻷمازيغية ولم تستسغ بعد الوضع الجديد وجعلت من نفسها جيوباً مقاومة، ظناً منها أنّ هذا الموقف هو ما سيعطيها ثقة ورضا الدولة. يخلص إلى أنّه "يتعين مقاربة الوضع مقاربة حقوقية، وأنّه يجب على الدولة معاملة اللغتين على قدم المساواة وتفعيل رسميتهما بكلّ شجاعة وموضوعية، كما يجب إعمال كلّ اﻵليات التي تضمن العدالة اللغوية وتربية المواطن المغربي على اﻻفتخار بذاته وتاريخه وحضارته بدلاً من الوﻻء للشرق أو الغرب".

العربية والفرنكوفونية

هناك صراع أيضاً بين العربية والفرنسية، فأنصار العربية يعتبرون أنّها وقعت رهينة اللغة الحاكمة - الفرنسية، التي تسيطر على مفاصل الحياة العامة إعلامياً وتعليمياً وإدارياً، بينما أنصار الفرنسية يواصلون مطلب الرفع من شأن الفرنكوفونية لأسباب سياسية واقتصادية.

في هذا الصدد، يقول الدكتور فؤاد بوعلي، رئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية، لـ"العربي الجديد"، إنّ وجود "لوبي فرانكفوني داخل المجتمع المغربي يحاول فرض الفرنسية في الميادين الثقافية والاجتماعية والاقتصادية حقيقة لا تخطئها عين المتابع". يتابع أنّ "التراجع عن مسار التعريب، ودعوات ترسيم اللهجة العامية في المدارس، واحتضانها من قبل الدوائر الثقافية الفرنسية، ورعاية التيارات الأمازيغية، إضافة إلى التدخل الفرنسي المباشر في الشأنين الثقافي والتعليمي في البلاد، يؤكد حقيقة قوة اللوبي الفرنكوفوني في البلاد".