الهوية العربية والأمن اللغوي: في شقاء لغتنا

28 اغسطس 2014
حمزة بونوا / الجزائر
+ الخط -

في كتابه الجديد، "الهوية العربية واﻷمن اللغوي" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، يكرر الناقد عبد السلام المسدي صرخته التي كان أطلقها في "العرب واﻻنتحار اللغوي" (الكتاب الجديد، 2011). صرخة لم تلق الصدى الذي كان مرجواً منها في بداية الأمر؛ غير أن اندلاع أحداث الربيع العربي أعاد الكاتب مرة أخرى إلى موضوعه، مستأنفاً ما كان بدأه من تحذير حول وضع اللغة العربية وتجاهل إشكالياتها واستغاثاتها.

ويتشارك عاملان في تكثيف وعي النخبة العربية بمأزق لغتها، أولهما الكونية الثقافية وامتداداتها، وثانيهما التسويق المتزايد للتهمة المراوغة الجاهزة التي تطابق بين اﻹسلام واﻹرهاب، ثم بين العرب واﻹسلام، وتقود إلى نتيجتها "المنطقية" وهي أن اللغة العربية، لغة العرب والإسلام، هي لغة تختزن، بذاتها، العنف والكره، وتدفع إلى اﻹقصاء.

يرى الكاتب، بعد تمعّن وقراءة، أن فضاء العربية ينحسر مع كل يوم جديد، فتفيض اللغات اﻷجنبية واللهجات المحلية على الفراغ الذي ينشأ من هذا الانحسار. انطلاقاً من هذا الهمّ، يطرح المسدي سؤاله اﻹجرائي: "إلى من نتجه بخطابنا عندما نثير المسألة اللغوية؛ إلى النخبة الفكرية حيث ورشات إنتاج اﻷفكار؟ أم إلى النخبة السياسية حيث مطاهي صناعة القرار؟ أم إلى الجمهور الذي على كواهله تنبثق اﻷفكار وعلى سواعده يتنزل القرار؟".

يبحث المؤلف في علاقة هذه المجالات مع بعضها، وفي استجابة كل مجال للإشكال اللغوي المطروح، فيثري بالكثير من الوثائق التي يعرضها ويحاورها ويبين شروط ظهورها. ويتناول المؤتمرات التي انعقدت حول هذا الموضوع، بدءاً من المؤتمر الذي دعا إليه "المجلس الأعلى للثقافة في مصر" بعد شهر واحد من احتلال العراق، والذي حمل شعار "الثقافة العربية من تحديات الحاضر إلى آفاق المستقبل، نحو خطاب ثقافي جديد"، وانتهاءً بمؤتمر دبي 2014، مروراً بالقمم العربية بين عامي 2007 و2009، والآلية التي تعامل فيها القادة العرب مع تحدي القضية اللغوية التي بينت أن الإرادة السياسية العربية مرتهنة للنافذين في العلاقات الدولية، وأنها مشطورة، في ما يشبه الفصام، بين القول السياسي وبين ممارسته.

ويتناول الكاتب تشكيل مجامع اللغة العربية وشروط تشكيلها وآليات عملها، ويرصد ردات فعل الدول المتحكمة بمسارات العالم، كالولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، على محاولات تفعيل الأمن اللغوي العربي.

ثم يطرح سؤال اﻷسئلة، كما يسميه: "كيف نعالج موضوع اللغة خارج المسالك المعبّدة، فنوظف خطاباً مختلفاً عن السائد والمألوف؟". وفي السائد والمألوف، ثمة ثلاثة أنواع من الخطابات: الخطاب العاطفي، والخطاب الأيديولوجي، والخطاب الغيبي؛ وهي خطابات إذا تعالقت فسدت، وكل واحد منها، بمفرده، عاجز عن الانخراط الفاعل في الزمن الجديد.

وإذا كان الحال كذلك، فكيف يمكن تخليق اﻹمكانية لإنتاج خطاب يتأسس على منجز اللسانيات، مع اﻻلتزام بالحياد العلمي، والانفتاح في الوقت نفسه على العناصر المتفاعلة في الظاهرة اللغوية، والتي ﻻ يستجيب أغلبها للقانون العقلي الصارم ما دامت تترجح بين النفسي والوجودي وتنشكل في الحدثي والشعري والجمالي، وجميعها أبعاد نتمثلها من دون أن يسعفنا العلم بمقاربتها، ﻷن معماره غير معمارها.

لا يرى الكاتب، في تحديده للإشكاليات، وﻻ في صياغته للأسئلة، لعباً ولا ترفاً؛ إنما يحاول تحفيز البصر والتبصر من أجل الانتباه والنهوض لمواجهة بؤس حالنا اللغوي، ثم دفع هذا الخطر الداهم الساحق الذي يظهر في تعميم "التلوث اللغوي" بفعل الفضائيات المعولمة ووسائل التواصل الاجتماعي التي تولّد لغة عربية هجينة صارت هي لغة التخاطب في واحدة من أكثر لحظات التاريخ المعاصر توتراً.

 ويشير الكاتب إلى الغياب اللافت للمشروع اللغوي، بما هو استحقاق ثوري وديمقراطي، عن خطاب الثورات العربية، مع أنه، في الكتاب، يستحضر المثقف كالبداهة فلا يشترط عليه سوى أن يؤمن بالصيرورة التاريخية، وأن يعقل الأشياء بمنطق الثورة التكنولوجية، من دون أن يتخلى عن انتمائه، وأن يتعرف إلى قدره الذي يفرض عليه بالضرورة أن يناضل في سبيل وعي ثقافي جديد.

وعلى هذا، يستخلص الكاتب أن القادة العرب، إن استمروا في استخفافهم بالمعضلة اللغوية، وإن لم يباشروا في رسم استراتيجية ملزمة تقوم على سن سياسة جريئة، سيجد العالم العربي نفسه في لغة تواصل هجينة من بقايا الفصحى وتوليفات من اللهجات المحلية، وصياغات من لغات أجنبية. وحينها سيسود تساهل وسهولة في التداول الشفاهي وصعوبة كئيبة في التداول الكتابي، الحال الذي سيقود بالضرورة إلى أن كل بلد عربي، على حدة، سيجتهد في صياغة منظومته الخاصة.

بعد هذه النتيجة الكارثة المحتملة، يؤكد الكاتب أن العرب لن يفلحوا في رهان التاريخ ﻻ باعتمادهم اللغة اﻷجنبية وﻻ بتبني اللهجات المحلية، ﻷن اﻷولى ستجعلهم تابعين أبد الدهر، والثانية لن تسعفهم إلا بمراكمة التأخر. وﻻ يمكن تغيير المسار اﻻنحداري إﻻ بإنصاف المعلمين والاهتمام بهم، وهم الذين ﻻ يمكن أن يفعلوا شيئاً من دون مجتمع يتسم بالسلامة التعبيرية، ومن دون إعلام يهتم ويلتزم بنصاعة اللغة.

وبناءً على ما سبق، يساجل الكاتب اﻵراء التي تذهب إلى ضرورة هجر اللغة العربية واستبدالها بلغة أجنبية تبسّط الاندماج بهذا العصر وتلبّي متطلباته، وهو السجال الذي يبتغي إرساء هوية واحدة، والمتصل بتفجير برجي التجارة العالميين، الرمزين البارزين لسلطة المال وحكم القطب الواحد وتشكيل هوية عولمية مع إذابة القوميات. يعلق عن ذلك بالقول إن هذا التوتر التاريخي، توتر 11 أيلول، قد تجاوز في معطياته محاورة اﻵخر والرد عليه، إلى الرد والمجادلة والمحاورة مع اﻷنا، بما هي خلاصة للذات الجماعية، ما دام اﻵخر يسعى صريحاً إلى تفتيت الهوية من داخلها بادئاً في طمس معالمها وتذرير عناصرها.

دلالات
المساهمون