يتركُ الكائن "المهضوم" (خفيف الظل) انطباعاً إيجابياً لدى القريبين منه. ينتشلهم من لحظات الضيق ويمحو من أذهانهم هموم الحياة وصعابها. الجميع يتمنون الكلام معه أو الاحتكاك به ليعطّلوا، ولو قليلاً، تعباً ما أو مشكلة مزمنة. وإذا حدث مرة وابتلى المهضوم بكآبة ما عرقلت حسّه الساخر، يسارع الجمهور فوراً إلى مطالبته بالعودة إلى ما كان عليه. فالرجل ارتبط اسمه بالضحك ورمي النكات. أما الحزن والتجهم فليسا من صفاته بتاتاً، وأي تحوّل مزاجي عنده سيعني الخيبة لدى مريديه.
هكذا تصبح الهضامة وظيفة رسمية وتفقد جذرها الفطري، ويغدو صاحب هذه الصفة مطالباً دوماً بتقديم مجموعة من النكات لإرضاء من حوله وإضحاكهم بالقدر اللازم. والرضا الذي يناله صاحبنا، يصبح مغرياً لسواه، فيسارع الآخرون إلى تقليده ورمي النكات يميناً وشمالاً، بمناسبة ومن دون مناسبة، فينحو حس السخرية منحى السخافة وتنقلب الهضامة إلى سماجة.
في وضع كهذا، ستكثر النكات المعلبة ذات الدلالات البديهية، وينقرض جمهور الضحك لأن الجميع بات يملك حس الهضامة ولا مبرر لوجود ضاحكين. لكنّ إغراء التقليد في مسألة الهضامة يصعب مقاومته، وخصوصاً أن المرء المسلّي لدى الوعي العام، هو الأقرب دائماً إلى الفتيات والأكثر كسباً لودهن. يكفي أن تُضحك فتاة ما كي تدخل قلبها. شبان كثر يتحوّلون إلى مهرجين للتنافس على المرأة. وصاحب النكتة الأكثر إضحاكاً هو من يكسب.
هذا التنميط الساذج في العلاقة مع المرأة سببه "المهضوم - النموذج" الذي خُلق في مجتمعاتنا بسبب انعدام فرص التعبير عن الأمزجة والطباع وترك المجال لتنوعها. يجب أن نكون جميعاً موضوعاً لإضحاك من حولنا، وخصوصاً المرأة، على الرغم من أن النكتة التي تخرج منا ليست سوى آلية لكبت صفات أخرى دفنت مع الوقت بفعل الضبط الاجتماعي الصارم.
المهضوم نفسه ليس بالضرورة شخصاً متوازناً. كل ما في الأمر أنه يمتلك القدرة على تدوير الموضوعات وإخراجها على شكل مفارقات فاضحة. يلعب بالدرجة الأولى على إنتاج المتناقضات مع إضافة بعض الدراما التخيلية. ثمة شيء من الفن في تكتيكات المهضوم، ما يعزز احتمال وجود أزمات عنده، فلا يملك سوى مسرحتها على شكل كوميديا شفهية.
وإذا كان المهضوم يتحايل على أزماته عبر صنع النكتة وتقديمها للآخرين، فإن هذه الأخيرة تتحول إلى آلية رقابية لدى المقلّدين الراغبين بامتلاك اللقب، تكبح صفاتهم الحقيقية. وعليه، فإن الضاحكين والمضحكين يتواطؤون على فعلٍ واحد. من جهة، يخفف القليل من أزمات الذات، ومن جهة ثانية يعطّل الذات نفسها، ما يجعل وراء كل نكتة أُخرى أقلّ إضحاكاً.
اقرأ أيضاً: الله يكفينا شرّ هالضحك