13 سبتمبر 2018
النقد السياسي.. جمال خاشقجي نموذجاً
تأثير الصوت السياسي الناقد باعتدال، في الغالب، ذو نتائج تراكمية كبيرة، وذو تأثير عميق في أطراف السلطة وحواشيها، لأنه، بإقناعه وأدبه القوي النافذ، ذو تأثيرٍ لا يحققه نظيره المعارض، المتشنج، المبالغ أحيانا حد الغلوّ في إظهار العيوب وتكبيرها. وهو، في الغالب، مثيل لنظيره على الطرف الآخر المبالغ في الإشادة والمديح، كالخطاب الذي تنتجه أدوات السلطة ذاتها، أنظمة أو حكومات أو أحزابا وحركات.
بالتأمل في أسباب ما حصل للصحافي السعودي المقتول ظلما، جمال خاشقجي، رحمه الله، وبمتابعة كتاباته ومقالاته منذ سنوات، وبقراءة كتبه، لا ترى الرجل إلا جزءا من البلاط، معجما وخطابا. وقد فتشت عما قد يكون سببا لما حصل له، فتنبهت إلى أن الرجل، مع أدبه مع السلطة، يختلف، فعلا، مع السعودية الجديدة في المرتكزات الكبرى للدور والوظيفة التي نهضت بها البلاد في ما مضى جزئيا، وكان عليها دائما أن تنسجم مع دورها ووظيفتها الاستراتيجية.
فضّل خاشقجي دائما دور الناقد السياسي الناصح للسلطة في العربية السعودية، بدل دور المعارض الفاضح لكل ما هو صادر عنها. ولذلك تراه يؤكد أنه ليس معارضا لسلطات بلاده، لكن كفاءة الدور النقدي ربما كانت أفضل من دور المعارض التقليدي. ولذلك كان وقع أدائه أقوى وأشد إيلاما، هذا فضلا عن توغله في أروقة صنّاع القرار، وقدرته على توصيل الصوت المقابل لصوت ولي العهد، محمد بن سلمان، في واشنطن، من خلال كتاباته، ولقاءاته، في ذلك السياق، مع مسؤولين ودوائر لصنع القرار في الولايات المتحدة.
كان جمال خاشقجي منحازا للأسس الاستراتيجية للسياسة السعودية التي لا يمكن إلا أن تكون جزءا من عمقها العربي الإسلامي، وخصوصا المكوّن الأساس، وهو الهوية العربية الإسلامية، بمختلف توجهات أصحابها، على كامل امتداد الخريطة العربية الإسلامية، على نحو ما كشفه، بشكل بارز، اللبناني نبيل خليفة، في كتابه "استهداف السنة.. من يتزعم العالم العربي الإسلامي السعودية أم إيران؟". وقد انحرف الدور الإماراتي بالسعودية مع الهواجس والمخاوف التي تسبّب فيها الربيع العربي في السنوات الأخيرة من حكم الملك عبد الله، فاتخذت قراراتٍ خطيرةً تضرب في العمق موقع المملكة ودورها، من خلال بذر خصام بينها وحليفها التاريخي ممثلا في الحركات الإصلاحية الإسلامية التي تم تصويرها خطرا يهدّد وجود المملكة على ضوء ما حصل في أثناء الثورات، وبعدها جاء المنعرج السياسي أخيرا، منذ العام 2017، ليشكل منعرجا أهوج في سياق الثورة المضادّة، وقائدها الأبرز في أبوظبي، فسقط القرار الاستراتيجي في المملكة في فخٍّ لا قاع له.
ولا يمكن لبلاد الحرمين بحكم موقعها الاستراتيجي الروحي (جزيرة العرب ومقدّساتها) إلا أن تحافظ على دورها وثقلها الاستراتيجي العربي الإسلامي. كما أن الشرعية السياسية للأسرة الحاكمة لا يمكن أن تكون في خصام مع أهم مصدر لها، وهو الدين والتديّن وحركات المتدينين وأحزابهم، وتحديدا التيارات المعتدلة كالإسلام السياسي، وكان ملوك السعودية المتعاقبون على فهمٍ عميقٍ لهذا الدور، ويتجسّد ذلك بشكل كبير في دعم المملكة لإخراج كتاب وثائقي تاريخي هام بعنوان: "السعودية والحل الإسلامي.. مصدر الشرعية السياسية للنظام السعودي".
الكتاب غني بالمادة الوثائقية، وهو مزدوج، مع المملكة وضدها، إلا أن رسالته في أوان صدوره بعد إفشال تمرد حركة جهيمان العتيبي في العام 1979، فهو يحدد، بوضوح، كيف أن المملكة ذات أهداف إسلامية كبرى، مثل التي تطرحها الحركات الإسلامية الصاعدة بقوة آنذاك، فقد استطاع الدهاء السعودي، في تلك الفترة، توظيف الأدوات الدينية لبناء شرعيةٍ سياسيةٍ تتأسس على الخطاب الديني، وبنت وجودها ووظيفتها على هذا الأساس، ما يجعل نقض عرى الدين والتدين هدما مباشرا للشرعية السياسية التي تأسس عليها حكم الأسرة السعودية، ونتج عن ذلك أنّه لم يكن من أولويات تيارات إسلامية كثيرة، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، على الإطلاق، إقامة نظام سياسي في بلاد الحرمين تأثرا بهذا الرصيد، بل إن "الإخوان" في دول الخليج اتجهوا إلى حل تنظيماتهم، لأن البيئة الخليجية لا تتطلب وجود جماعاتٍ وتنظيماتٍ، كما في مصر وبلدان عربية أخرى كانت موجة التغريب فيها أقوى.
كما أنّ أي مملكةٍ في التاريخ لا بد أن تراعي، في الخط السياسي العام، مستوىً كبيرا من تحقيق أسس العدل ورعاية الاستقرار، واكتساب قلوب الناس ومشاعرهم، بدل إثارتهم بأساليب القمع والإرهاب لكل من يفترض فيه الرأي والتعبير عنه. وكان مئات من المثقفين السعوديين يبصرون واقع التحول الجاري المناقض للأسس التي قامت عليها هذه الدولة منذ أيام الملك عبد الله، وآثروا السكوت، وهو سكوتٌ يسهّل التحكّم فيهم وتطويعهم، بكل أسف.
لا يمكن أن تحيا المملكة السعودية بدون الشرعية السياسية الإسلامية، ولا يمكن أن تحيا من دون نهوضها بوظيفتها الاستراتيجية العربية الإسلامية، إنها بدون بحرها الإسلامي كالسمكة لا حياة مستمرة لها خارج حضنها الدافئ. وكان جمال خاشقجي مؤمنا بهذه العقيدة السياسية
الاستراتيجية لوظيفة بلاد الحرمين ودورها، والتي لا يتصور أن تكون في أي يوم على نقيض مع ذاتها، ومع مصدر استمرارها (الإسلام السياسي)، وكان يعبّر عن هذه العقيدة بأدبٍ جم مع الحاكم وبلاطه، ولم يكن ينتقد بقدر ما يقترح ويوضح تناقض بعض التوجهات الحالية مع هذا الدور الذي يتطلع كل العرب والمسلمين إلى أن يكون ليس في دائرة الافتراض فقط، وإنما حقيقة واقعة حبا لهذه البلاد "المقدّسة".
ينتمي الرجل لأسرة تركية الأصول، استقرت في المدينة المنورة منذ أكثر من خمسمائة عام، ويتحدر منها عديدون من مؤذني المسجد النبوي الشريف، ومنها ساسة ورجال أعمال وتكنوقراط، خدموا في البلاط السعودي منذ عهد الملك المؤسس، عبد العزيز آل سعود، من أبرزهم الطبيب الخاص للملك، محمد خاشقجي، ونجله رجل الأعمال الشهير عدنان خاشقجي، الذي كان له الدور الأبرز في توريد أسلحة أميركية إلى إيران عبر وسيط إسرائيلي، وهي الصفقة التي كشفها الإعلام العالمي، وكان من ضمن الصفقة إطلاق سراح ضباط من المخابرات الأميركية محتجزين لدى إيران ووكلائها. وتنتمي للأسرة نفسها أيضا سميرة خاشقجي والدة رجل الأعمال المصري دودي الفايد، الذي توفي رفقة أميرة ويلز ديانا في العام 1997 في باريس.
رحم الله الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، وأدخله فسيح جناته، فقد ذهب إلى ربه لينضاف إلى قائمة طويلة من المثقفين والعلماء والكتاب الذين دفعوا حياتهم ثمنا للطغيان السياسي، لتتحرّر شعوبهم، فما أسهل السكوت، وقد فعله مئات في بلاد الحرمين، فعوقبوا حتى على السكوت.
بالتأمل في أسباب ما حصل للصحافي السعودي المقتول ظلما، جمال خاشقجي، رحمه الله، وبمتابعة كتاباته ومقالاته منذ سنوات، وبقراءة كتبه، لا ترى الرجل إلا جزءا من البلاط، معجما وخطابا. وقد فتشت عما قد يكون سببا لما حصل له، فتنبهت إلى أن الرجل، مع أدبه مع السلطة، يختلف، فعلا، مع السعودية الجديدة في المرتكزات الكبرى للدور والوظيفة التي نهضت بها البلاد في ما مضى جزئيا، وكان عليها دائما أن تنسجم مع دورها ووظيفتها الاستراتيجية.
فضّل خاشقجي دائما دور الناقد السياسي الناصح للسلطة في العربية السعودية، بدل دور المعارض الفاضح لكل ما هو صادر عنها. ولذلك تراه يؤكد أنه ليس معارضا لسلطات بلاده، لكن كفاءة الدور النقدي ربما كانت أفضل من دور المعارض التقليدي. ولذلك كان وقع أدائه أقوى وأشد إيلاما، هذا فضلا عن توغله في أروقة صنّاع القرار، وقدرته على توصيل الصوت المقابل لصوت ولي العهد، محمد بن سلمان، في واشنطن، من خلال كتاباته، ولقاءاته، في ذلك السياق، مع مسؤولين ودوائر لصنع القرار في الولايات المتحدة.
كان جمال خاشقجي منحازا للأسس الاستراتيجية للسياسة السعودية التي لا يمكن إلا أن تكون جزءا من عمقها العربي الإسلامي، وخصوصا المكوّن الأساس، وهو الهوية العربية الإسلامية، بمختلف توجهات أصحابها، على كامل امتداد الخريطة العربية الإسلامية، على نحو ما كشفه، بشكل بارز، اللبناني نبيل خليفة، في كتابه "استهداف السنة.. من يتزعم العالم العربي الإسلامي السعودية أم إيران؟". وقد انحرف الدور الإماراتي بالسعودية مع الهواجس والمخاوف التي تسبّب فيها الربيع العربي في السنوات الأخيرة من حكم الملك عبد الله، فاتخذت قراراتٍ خطيرةً تضرب في العمق موقع المملكة ودورها، من خلال بذر خصام بينها وحليفها التاريخي ممثلا في الحركات الإصلاحية الإسلامية التي تم تصويرها خطرا يهدّد وجود المملكة على ضوء ما حصل في أثناء الثورات، وبعدها جاء المنعرج السياسي أخيرا، منذ العام 2017، ليشكل منعرجا أهوج في سياق الثورة المضادّة، وقائدها الأبرز في أبوظبي، فسقط القرار الاستراتيجي في المملكة في فخٍّ لا قاع له.
ولا يمكن لبلاد الحرمين بحكم موقعها الاستراتيجي الروحي (جزيرة العرب ومقدّساتها) إلا أن تحافظ على دورها وثقلها الاستراتيجي العربي الإسلامي. كما أن الشرعية السياسية للأسرة الحاكمة لا يمكن أن تكون في خصام مع أهم مصدر لها، وهو الدين والتديّن وحركات المتدينين وأحزابهم، وتحديدا التيارات المعتدلة كالإسلام السياسي، وكان ملوك السعودية المتعاقبون على فهمٍ عميقٍ لهذا الدور، ويتجسّد ذلك بشكل كبير في دعم المملكة لإخراج كتاب وثائقي تاريخي هام بعنوان: "السعودية والحل الإسلامي.. مصدر الشرعية السياسية للنظام السعودي".
الكتاب غني بالمادة الوثائقية، وهو مزدوج، مع المملكة وضدها، إلا أن رسالته في أوان صدوره بعد إفشال تمرد حركة جهيمان العتيبي في العام 1979، فهو يحدد، بوضوح، كيف أن المملكة ذات أهداف إسلامية كبرى، مثل التي تطرحها الحركات الإسلامية الصاعدة بقوة آنذاك، فقد استطاع الدهاء السعودي، في تلك الفترة، توظيف الأدوات الدينية لبناء شرعيةٍ سياسيةٍ تتأسس على الخطاب الديني، وبنت وجودها ووظيفتها على هذا الأساس، ما يجعل نقض عرى الدين والتدين هدما مباشرا للشرعية السياسية التي تأسس عليها حكم الأسرة السعودية، ونتج عن ذلك أنّه لم يكن من أولويات تيارات إسلامية كثيرة، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، على الإطلاق، إقامة نظام سياسي في بلاد الحرمين تأثرا بهذا الرصيد، بل إن "الإخوان" في دول الخليج اتجهوا إلى حل تنظيماتهم، لأن البيئة الخليجية لا تتطلب وجود جماعاتٍ وتنظيماتٍ، كما في مصر وبلدان عربية أخرى كانت موجة التغريب فيها أقوى.
كما أنّ أي مملكةٍ في التاريخ لا بد أن تراعي، في الخط السياسي العام، مستوىً كبيرا من تحقيق أسس العدل ورعاية الاستقرار، واكتساب قلوب الناس ومشاعرهم، بدل إثارتهم بأساليب القمع والإرهاب لكل من يفترض فيه الرأي والتعبير عنه. وكان مئات من المثقفين السعوديين يبصرون واقع التحول الجاري المناقض للأسس التي قامت عليها هذه الدولة منذ أيام الملك عبد الله، وآثروا السكوت، وهو سكوتٌ يسهّل التحكّم فيهم وتطويعهم، بكل أسف.
لا يمكن أن تحيا المملكة السعودية بدون الشرعية السياسية الإسلامية، ولا يمكن أن تحيا من دون نهوضها بوظيفتها الاستراتيجية العربية الإسلامية، إنها بدون بحرها الإسلامي كالسمكة لا حياة مستمرة لها خارج حضنها الدافئ. وكان جمال خاشقجي مؤمنا بهذه العقيدة السياسية
ينتمي الرجل لأسرة تركية الأصول، استقرت في المدينة المنورة منذ أكثر من خمسمائة عام، ويتحدر منها عديدون من مؤذني المسجد النبوي الشريف، ومنها ساسة ورجال أعمال وتكنوقراط، خدموا في البلاط السعودي منذ عهد الملك المؤسس، عبد العزيز آل سعود، من أبرزهم الطبيب الخاص للملك، محمد خاشقجي، ونجله رجل الأعمال الشهير عدنان خاشقجي، الذي كان له الدور الأبرز في توريد أسلحة أميركية إلى إيران عبر وسيط إسرائيلي، وهي الصفقة التي كشفها الإعلام العالمي، وكان من ضمن الصفقة إطلاق سراح ضباط من المخابرات الأميركية محتجزين لدى إيران ووكلائها. وتنتمي للأسرة نفسها أيضا سميرة خاشقجي والدة رجل الأعمال المصري دودي الفايد، الذي توفي رفقة أميرة ويلز ديانا في العام 1997 في باريس.
رحم الله الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، وأدخله فسيح جناته، فقد ذهب إلى ربه لينضاف إلى قائمة طويلة من المثقفين والعلماء والكتاب الذين دفعوا حياتهم ثمنا للطغيان السياسي، لتتحرّر شعوبهم، فما أسهل السكوت، وقد فعله مئات في بلاد الحرمين، فعوقبوا حتى على السكوت.
دلالات
مقالات أخرى
25 اغسطس 2016