النقابات الفرنسية تهدد بمواجهة إجراءات الحكومة في السكك الحديدية

28 فبراير 2018
العمال يستعدون لتظاهرة كبرى في مارس المقبل(فرانس برس)
+ الخط -
"العالَم، الآن، ليس كما كان سابقاً"، و”أنا حفيد لعاملٍ اشتغل في الشركة الوطنية للسكك الحديدية. اذهب لترى حالة المزارعين، فليست لديهم أي وضعية (اجتماعية). لا يجب عليك أن تقُصَّ أكاذيبَك على الناس. كم مضى من عمرك؟ أنتَ لستَ في نفس مستوى إيقاع جدّي…".
هذه الكلمات العنيفة التي وجَّهَها الرئيس إيمانويل ماكرون، أثناء تواجده في معرض الفلاحة، لأحد عمال شركة السكك الحديدية، جاء يستفسره عن مشروع الإصلاح الذي تهيئه الحكومة لإصلاح هذه الشركة الوطنية، تقدّم، للمراقبين، صورة مصغرة عن "العنف" الذي سيشوب المفاوضات بين النقابات والحكومة حول إصلاح هذا القطاع، الذي لم يتجرّأ أي رئيس جمهورية فرنسي من قبلُ على الاقتراب منه.

تفكر الحكومة الفرنسية في صلب الإصلاح المنتظر والمثير للجدل، في إنهاء "وضعية موظفي شركة السكك الحديدية"، بالنسبة للواصلين الجدد، بما يتضمن التخلي عن كثير من الامتيازات السابقة، كما تفكر الحكومة في فتح خطوط النقل السككي أمام المنافَسة، وهو ما شدّدت عليه القوانين الأوروبية، على الرغم من تقاعس الحكومات الفرنسية السابقة في تطبيقها.
هذه المنافسة تهم قطاعين: الخدمات غير المدعومة، كالقطارات السريعة، التي ستفتح المنافسة فيها ابتداءً من يناير/كانون الثاني 2019، وأيضاً الخدمات المدعومة، كالقطارات المناطقية السريعة، التي تتلقى مساعدات من قبل الدولة والجهات، والتي ستصلها المنافسة الأوروبية قبل ديسمبر/كانون الأول 2019.

وتسعى الحكومة إلى تجفيف الديون الكبيرة التي تلاحق هذه الشركة الوطنية، وهي ديون وصلت سنة 2016 إلى 45 مليار يورو (55.5 مليار دولار تقريباً) وتزداد كل سنة بـمقدار 3 مليارات يورو، ويمكن أن تصل، في حال غياب أي إصلاح جديّ، إلى 62 مليار يورو سنة 2026.
وهي حالة اقتصادية اعتبرها رئيس الحكومة الفرنسي، إدوار فيليب: "مثيرة للقلق، حتى لا نقول إنها لا تطاق"، وأضاف في نوع من الاستعطاف من أجل دعم الفرنسيين للإصلاح: "الفرنسيون، سواء استقلوا القطارات أم لم يفعلوا، يدفعون، أكثر فأكثر، ثمناً غالياً للقطاع العمومي، التي تسوء أحواله، أكثر فأكثر".

ولم يُخفِ إدوار فيليب أن حكومته سستفيد من "تقرير سبينيتا"، الذي أعدّه المدير العام السابق للخطوط الفرنسية، جان سيريل سبينيتا بطلب من الحكومة. والذي يقترح إصلاحاً لهذه الشركة، التي يتجاوز عجزها ملياري ونصف مليار يورو، وذلك من خلال سلسلة من الإجراءات تتضمن نهاية توظيف عمال جدد وفق الوضعية الحالية، كما يقترح إدماج مختلف مكوّنات الشركة الأمّ في شركة واحدة.
كما يتضمن التقرير، أيضاً، إمكانية التخلي عن بعض الخطوط غير المربحة، ولكنّ رئيس الحكومة، الواعي بمحاولة ماكرون الانفتاح على العالم القروي، وهو ما نجح فيه في معرض الفلاحة، حيث استطاع تفكيك قنبلة المزارعين، الغاضبين من سوء أحوالهم المادية، خاصة التقاعد، ومن دخول لحوم منافسة، من أميركا اللاتينية إلى السوق الفرنسية، ولو إلى حين، أكّد أنه لن يتبع توصيات التقرير في هذا الشأن، وهو ما يعني استمرار القطارات في الربط بين البلدات الفرنسية.

واستباقاً لأي اشتباك ولإضاعة الوقت في نقاشات، تريدها المعارضة طويلة ومُنهِكة للحكومة، وقد تساهم في مزيد من الهبوط في رصيد شعبية رئيس الجمهورية التي تراجعت في شهر فبراير/شباط إلى 44% من 50% في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، وهوت شعبية رئيس الحكومة، من 49% إلى 46%، وفقاً للاستطلاع الذي نشرته صحيفة "لوجورنال دي ديمانش" الفرنسية يوم الأحد قبل الماضي، فإن الحكومة ستعمل على التصويت، في شهر مارس/آذار القادم، على “قانون التأهيل”، وهو قانون، يسمح به دستور الجمهورية الخامسة، يتيح للحكومة اتخاذ مراسيم إجراءات لها صبغة قانونية، هو ما ترى فيه النقابات فرضاً للقوة من قبل الحكومة، الواثقة من أغلبيتها البرلمانية، على الرغم من المشاورات التي ستفتحها مع مختلف الفاعلين.

وهو الموقف الذي عبر عبّر عنه فيليب مارتينيز، رئيس أكبر نقابة عمالية “سي. جي. تي” في هذه الشركة، حين اعتبر أنّ التظاهرة الكبرى التي دعت إليها نقابته، يوم 22 مارس/ آذار القادم، “ستعرف نجاحاً كبيراً. وهي تظاهرة منظَّمٌ لها بشكل جيّد“، وأضاف: “ولكن ما تحاول الحكومة أن تفعله إنما هو مرور بالقوة من دون مفاوضات، ومن دون وضع الأصبع على المشاكل الحقيقية، وهو ما يهدد بتسميم الأوضاع".
وهي نفس الطريقة، كما يقول الرافضون للسياسة الحكومية، التي اتخذتها الحكومة في استخدام المراسيم لفرض قانون الشغل الجديد، الذي عارضته معظم النقابات العمالية وقطاع عريضٌ من الفرنسيين، حيث أعطى البرلمان الفرنسي، في أغسطس/آب الماضي، الإذن للحكومة بإصلاح قانون العمل بمعزل عن البرلمان، ومنحها صلاحية إصلاح قانون العمل بمراسيم، بينما اكتفى بالاطلاع على الإصلاحات في بداية العملية ونهايتها.

كما تراهن الحكومة على أن يتخلّى الفرنسيون، بسرعة، عن دعم موظفي السكك الحديدية، خصوصاً إذا أثّر الإضراب، الذي يبدو محتمَلاً، على عملهم وتحركاتهم. وهو أملٌ غير مستحيل، نظراً للموقف الشعبي البارد، الذي لم يستطع فعل شيء لوقف إصلاح قانون الشغل المثير للجدل، التي أقرّته الأغلبية البرلمانية المُريحة، على الرغم من أغلبية الفرنسيين، كانت ولا تزال تعارضه.
ومحاولة لطمأنة الرأي العام، الذي لا يزال يحتفظ بتقدير كبير للقطاع العام وللوظيفة العمومية، منذ سنوات التحالف، التي أعقبت تحرير فرنسا من النازية، بين الشيوعيين والجنرال ديغول، لم يجد رئيس الحكومة بُدّاً من دغدغة عواطف الفرنسيين، حين شدّد، مع عرض الوعود بتكريس 10 مليارات يورو لتحديث البنى التحتية لهذه الشركة الوطنية، على أن الشركة الوطنية للسكك الحديدية: "هي مجموعة عمومية تحمل مهمّات الوظيفة العمومية. وهي محفورة في التراث الوطني، وستظلّ فيه".

وإذا كان الرئيس ماكرون نجح في إفحام موظف شركة السكك الحديدية، الذي حاول، وهو من حقه ومن حقوق نقابته، الدفاع عن مكتسبات يراها الكثير من الفرنسيين مسيلة للُّعاب، ومن بينها التقاعد في سن 55 سنة، من خلال مقارنة وضعية هؤلاء المشتكين "المحظوظين" بوضعية مزارعين وفلاحين فرنسيين، يعيش بعضُهُم، خاصة صغار المزارعين، في شبه فقر، مع تقاعد متأخر وهزيل، فإن القليل فقط يعرف أن بضعة آلاف من العمال المغاربة في هذه الشركة الوطنية الفرنسية، عوملوا، منذ سبعينيات القرن الماضي، معاملة تقترب من العبودية، حيث مورست عليهم عنصرية وتمييز، لم يعترف بهما القضاء الفرنسي مع طلب بمنحهم تعويضات، إلّا قبل نحو شهر، يوم 31 يناير/كانون الثاني 2018، بعد ماراثون قضائي، مات خلال الكثيرون من هؤلاء المتقاعدين المغاربة المنهكين، وهو الحكم الذي وصفته محامية المتقاعدين، سليلي دي ليسكين جوناس بأنه "إضافة إلى انتصار المتقاعدين، فقد حصلوا على اعتراف المحكمة بوجود "ضرر معنوي".

وفي الوقت الذي يدافع فيه موظف شركة السكك الحديدية الفرنسيّ عن تقاعده في الخامسة والخمسين، ينسى الكثيرون أن المتقاعدين المغاربة حصلوا على تقاعدهم في سنّ الخامسة والستين، دون أي إمكانية للترقي في المهنة، وبضمان اجتماعي أدنى، بكثير، من نظيره لدى رفاقهم الفرنسيين، في نفس الشركة ونفس الوظيفة، حيث أصبحت حياة هؤلاء المتقاعدين المغاربة صعبة، فالتقاعد لم يمنحهم ما يمنحه للفرنسيين الذين ينصرفون إلى الاستمتاع بحياتهم.

أما النقابات المستعدة، الآن، للخروج للشارع، بما فيها “سي. جي. تي”، فلم تفعل لهؤلاء العمال المغاربة، شيئاً، لأنها كانت مشغولة بتحسين ظروف أطرها المادية، وظروف تقاسم القرار داخل الشركة الوطنية الفرنسية، كما يجمع كل الذين كتبوا عن مأساة اسمها “متقاعدو الشركة الوطنية للسكك الحديدية، المغاربةُ”.


المساهمون