النفوق الكبير لأسماك العراق... تفاقم التلوث الكيميائي والعضوي يدمر البيئة المائية

20 نوفمبر 2018
87 % نسبة المتضررين في محافظة بابل فرانس برس)
+ الخط -

صباح الأربعاء 31 أكتوبر/تشرين الأول الماضي فوجئ الخمسيني العراقي أبو كرار التميمي، بأسماكه ميتة تطفو على سطح أحواض التربية على ضفاف نهر الفرات، مقدرا خسارته بما يعادل 60 مليون دينار عراقي (حوالي 50 ألف دولار أميركي) قيمة 19 طنا من الأسماك التي نفقت.

ما جرى لأسماك التميمي الذي يعيش في قضاء المسيب في محافظة بابل، تكرر مع ستار الغراوي الذي تعرض إلى خسارة 75 طناً من الأسماك تقدر قيمتها بـ 225 مليون دينار.

وبلغت نسبة المتضررين في محافظة بابل 87% من إجمالي مربي الأسماك فيها، وهي نسبة عالية مقارنة مع المحافظات الأخرى التي تباينت فيها النسب ما بين 21% إلى 45% كما يقول الباحث والموظف في دائرة البيطرة في المحافظة، الدكتور حيدر المعموري، الذي أسس وزملاؤه شبكة لتقديم النصح والعلاجات المجانية للمربين، مضيفا أن بابل من المدن المشهورة بتربية الأسماك، وانتشار أحواض التربية بشكل متقارب، وهو ما يتطابق مع أدنى مقومات التربية السليمة.

وتقدر نسبة نفوق الأسماك المستزرعة في إجمالي العراق بـ 30% من حجم الإنتاج الذي يصل إلى نحو 150 ألف طن سنوياً، وفق إفادة الدكتور ميثاق الخفاجي مدير قسم الصحة الحيوانية في مديرية البيطرة العامة.

تساؤلات المربّين

منذ نفوق أسماك التميمي والغراوي، يتساءل المربّيان وغيرهما عن السبب الحقيقي لما حدث من دون تلقي إجابة مؤكدة، غير أنه بعد أقل من شهر على نفوق الأسماك، أظهرت الفحوص المخبرية التي أجريت على عينات مياه في المختبر المرجعي في عمّان للكشف عن سبب نفوق الأسماك في نهر الفرات في العراق أن المياه ملوثة بمحتوى عال من القولونيات والمعادن الثقيلة وتركيز عال من الأمونيا، وفق ما أعلنت منظمة الصحة العالمية في بيان نشرته على موقعها الإلكتروني في 20 نوفمبر/تشرين الثاني.

ويقول خبراء صحيون من المنظمة العالمية ووزارة الصحة والبيئة العراقية، إن هذه المواد سامة للأسماك، لكنها لا تشكل خطراً على صحة البشر.

وبيّنت الفحوصات التي أجريت للأسماك النافقة مشكلات خطرة دفعت منظمة الصحة العالمية إلى العمل على إجراء تحقيق ثان يتعلق باحتمال أن تكون عدوى فيروسية، هي سبب نفوق آلاف الأسماك في النهر، ومن المقرر أن تظهر نتائج هذا الفحص الثاني الأسبوع القادم وفقا للمنظمة.

ويعلق الدكتور ميثاق الخفاجي على نتائج الفحص المخبري الصادر عن منظمة الصحة العالمية قائلا "النتائج جاءت متطابقة إلى حد كبير مع الفحوصات التي أجرتها المؤسسات العراقية مشيراً بأن تركيز الأمونيا العالي يأتي عادة إلى النهر من المخلفات العضوية البروتينية وفضلات البشر، والقولونيات من مياه الصرف الصحي، والمعادن الثقيلة تأتي من المخلفات الصناعية عموما".

الخفاجي يصف ما شهدته الأنهار العراقية من ظاهرة نفوق الأسماك بأنها "نقطة الانفجار البيئي، والجرس الأخير الذي ينذر بوجود تلوث عضوي كبير في مجرى النهرين"، قائلا إن ما جرى واحدة من الظواهر التراكمية التي حصلت، بسبب التغير السلبي الذي جرى في البيئة المائية.

ويعدُّ الخفاجي انتشار الطحالب السامة التي تتكاثر بسرعة في المياه، مع ارتفاع الملوثات العضوية، وضعف جريان المياه في مياه نهري دجلة والفرات، سبباً آخر أدى إلى ارتفاع معدلات النفوق، مبيناً أن هذه الطحالب لا تتكاثر إلا عند انخفاض منسوب المياه، والتراكيز العالية من المواد العضوية التي تمثل ملوثات تتغذى عليها الطحالب التي تتكون من المياه الثقيلة التي ترمى في مجرى النهر وعلف الأسماك المتحلل، بتركيز حامضي بلغ قياسه 11 ph (الأس الهيدروجيني أو درجة الحموضة)، وهو ما يراه الدكتور ماهر الأوسي مدير شعبة الأسماك في مديرية الزراعة في محافظة واسط تركيزاً عالياً، مبيناً أن التركيز الطبيعي للحموضة يجب أن يكون من 6 ph إلى 8 ph، وفي حال ارتفاعه فإنه يفرز مادة الأمونيا، وهي من المواد السامة التي تقوم بخنق وتسميم الأسماك، وتابع قائلا لـ"العربي الجديد" إن: "تحوّل لون ماء النهر في بعض المناطق دليل واضح للضرر البيئي المستمر منذ فترة ما فاقم موت الأسماك".

والطحالب السامة، أو ما يسمى علمياً بالطحالب الخضراء المزرقة، هي كائنات بكتيرية شديدة السمية، تتكاثر بسرعة في المياه الدافئة، ومع ارتفاع الملوثات العضوية وضعف جريان المياه، تستهلك الأوكسجين، وعند موتها تطلق سموم "المايكروسستين" المقاومة للحرارة، وتركيزها البيئي متباين من قفص إلى آخر ومن ضفاف الأنهار إلى عمقها، بحسب ما قاله مدير قسم الصحة الحيوانية في المديرية العامة للبيطرة.

أسباب النفوق التي أوردها الخفاجي، لا تختلف عما يقوله الدكتور ناطق الغرباوي نقيب الأطباء البيطريين في محافظة واسط، الذي أكد لـ"العربي الجديد" أن تلوث المياه كان سبباً رئيساً في حصول التهاب بكتيري فطري في أحواض السمك بنسبة 90%، رافقه نقص كمية الأكسجين 3ملم غرام/ لتر، في وقت تتراوح نسبة الأوكسجين الطبيعية من 5 ملم غرام/لتر إلى 8 ملم غرام/لتر، وانتشر في مياه الأنهار بشكل متسارع، مشيرا إلى أن الالتهاب هو الذي أفرز سموماً أدت إلى إتلاف غلاصم الأسماك وموتها".

ويتفق المتحدث باسم وزارة الزراعة الاتحادية، حميد النايف مع الطبيب الغرباوي في أن التحليلات المخبرية التي أجرتها الدوائر المعنية في وزارته كشفت، أن نفوق الأسماك، وأغلبها من نوع (الكارب) ناتج عن إصابتها بما يعرف طبياً بتعفن الغلاصم، وهو ما يتطابق مع مضمون وثيقة الفحص المخبري الصادرة عن قسم المختبرات والبحوث البيطرية في مديرية البيطرة التي حصلت "العربي الجديد" على نسخة منها، والتي أثبتت وجود تنخر واحتقان ومادة بيضاء على غلاصم الأسماك النافقة من خلال فحص عينات من الأسماك النافقة في مناطق شمالي بغداد (الغالبية والطارمية والراشدية).



مصادر التلوث في مياه العراق

مخلفات المصانع والتلوث الناتج عن محطات الطاقة الكهربائية ومياه المبازل التي تلقى في أنهار العراق، وانتشار أحواض تربية الأسماك بشكل غير قانوني يفتقر إلى معايير الصحة الحيوانية، أسباب مجتمعة قادت إلى ما شهده العراق من كارثة بيئية تسببت بموت ملايين الأسماك في الأحواض ذات الكثافة العالية، ويدعم ما سبق قرب المسافات بين الأقفاص العائمة، وركود المياه الذي تسبب به شحّ المياه وانخفاض مناسيبها، حسب ما يرى الدكتور ميثاق الخفاجي.

ويتفاقم التلوث البيئي في العراق، بحسب دراسة مسحية بيئية قدمها الدكتور عبد الرحمن الكبيسي وعبد الحميد العبيدي في عام 2010 لمركز البحوث البيئية في الجامعة التكنولوجية ببغداد، تضمنت دراسة التلوث الحاصل في نهر دجلة قبل وبعد مروره في العاصمة بغداد، وتوصلت الدراسة إلى أن الأسماك والرخويات تقوم بعملية تجميع وتراكم للسموم في أنسجتها بتركيز عالي المستوى، ولا يضعف أثرها مع الطبخ، وليس لها رائحة ولا طعم، وقد تتسبب بأمراض صدرية في الجهاز التنفسي، وتهيج في الأغشية المخاطية للأنف والعين، بسبب تناول تلك الأسماك.

مشاكل تربية الأسماك في العراق

بدأ نفوق الأسماك في محافظة ديالى، ثم انتقل إلى بغداد وبابل، وصولاً إلى محافظتي الديوانية وواسط، بحسب وكيل وزارة الصحة والبيئة الدكتور جاسم الفلاحي لـ"العربي الجديد".

ويرجع المتحدث باسم وزارة الزراعة الاتحادية حميد النايف سبب انتشار الإصابة في أسماك الكارب إلى قلة مناعته، وعدم تحمله للبيئة المائية الرديئة والملوثة في الأنهار، في الوقت الذي يفضله المربون لكونه يتصف بسرعة نموه ووفرة إنتاجه، قائلا "ظاهرة النفوق التي شهدتها أحواض الأسماك ليست جديدة على العراق، وهي حالة مرضية مشخصة وتحدث منذ اثني عشر عاماً، والجديد فيها هو قيام بعض المربين جهلاً برمي الأسماك الميتة في مجرى النهر، والتي تفسخت وساهمت في انتشار الظاهرة" مشيراً إلى أن انعدام خبرة المربين في التصدي المبكر للكارثة، وعدم وجود إشراف بيطري على مئات الأحواض غير المجازة رسمياً، يعد سبباً مباشراً في ما جرى.

وبسبب عدم وجود إشراف بيطري على الأحواض، تجمعت الفضلات في الأقفاص وتخمرت مخلفات الأسماك وقلت نسبة الأوكسجين، ما ساهم في تلوثه بالمواد العضوية لتتفاقم الظاهرة كما يقول الطبيب المعموري.

ويلقي الدكتور يحيى مرعي مدير المستشفى البيطري في محافظة بابل باللائمة على الأعلاف التي يعتمد عليها مربو الأسماك في تغذيتها، موضحاً أنَّ بعض الأعلاف غير خاضعة للفحص الطبي، وبيان مدى الجودة من قبل دائرة الثروة الحيوانية، وتابع قائلا لـ"العربي الجديد": "وزارة الزراعة غير معنية باستيراد الأعلاف لمربي الأسماك، لكنها تشرف بشكل ميداني على مدى مطابقتها للمعايير الصحية، وبعض المربين يقومون بتصنيعها محلياً من فضلات الحيوانات، وأحشاء الأغنام والأبقار في ظل ظروف تصنيع غير ملائمة وينتج عنها فطريات سامة كالتعفن، وتلك الفطريات تفرز سموماً تقتل الأسماك بشكل مباشر حال تناولها العلف"، وهو ما يؤكده البيطري ماهر الأوسي، مشيرا إلى أن إلى قيام المربين باللجوء إلى معامل محلية غير مرخصة، لشراء الأعلاف بأرخص الأثمان من دون اعتبار لمعايير الجودة الصحية.

إجراءات للحد من انتشار المرض

تواصل منظمة الصحة العالمية العمل مع وزارة الصحة والبيئة العراقية لوضع تدابير وقائية مناسبة للاستجابة لمثل هذه الحوادث في المستقبل والتخفيف من وطأتها، كما جاء في بيانها.

وتكمن مهمة الجهات المعنية في الحد من انتشار المرض، وإتلاف الأسماك النافقة بالدفن والحرق وعدم رميها في الأنهار، ووضع مصدات لمنع انتشارها، وتعقيم المشاريع المصابة وغير المصابة بحسب البيطري الأوسي.

وشكلت وزارة الزراعة الاتحادية، غرفة عمليات مشتركة مع وزارة الموارد المائية ووزارة الصحة والبيئة، لتعقيم الأقفاص التي لم تصلها البكتريا عبر فرق ميدانية، واستخدام الأحزمة المطاطية العازلة، والحد من رمي الأسماك النافقة في مياه الأنهر واستخراج الميت منها وطمرها في أماكن خاصة، كما قال المتحدث باسم الوزارة.

وكشف الخفاجي عن اقتراح تقدمت به غرفة العمليات التي شكلتها الحكومة العراقية بعد الأزمة يتضمن تعويض أصحاب المشاريع المتضررة من المجازين رسمياً، وفق المادة الثالثة الفقرة ثانيا من قانون الصحة الحيوانية رقم 32 لسنة 2013، لتخفيف عبء الخسارة التي تعرضوا إليها، وهو ما ينتظره التميمي والغراوي وبقية المتضررين من كارثة ضيّعت تعب موسم كامل.