قبل اندلاع ثورة 25 يناير، تحديدًا في الأول من يناير 2011، قام تنظيم القاعدة بتفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية في حادثة عنيفة حاول نظام مبارك التماسك وإظهار قوته في التعامل معها، لكنه لم يصمد طويلًا.
الآن تشهد مصر لحظات عنيفة مماثلة بعد حادث تفجير الكنيسة البطرسية في العباسية، الذي راح ضحيته 27 شخصًا كانوا يؤدون مراسم القداس يوم الأحد. الانفجار تم في المكان المخصص للسيدات، بقنبلة تزن 12 كيلوغراماً دخلت إلى المبنى وسط إجراءات أمنية متراخية على أقل تقدير.
لم ينقضِ اليوم، حتى أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اسم المسؤول عن الانفجار أثناء إلقاء خطابه في مراسم دفن الضحايا. أكد السيسي أن الحادث تم بواسطة حزام ناسف لانتحاري في الثانية والعشرين من العمر، يدعى محمود شفيق محمد مصطفى، وإن الأجهزة قضت ليلة أمس تجمع أشلاء جثته، بعد أن ألقت القبض على ثلاثة آخرين وسيدة كانوا يعاونونه، ولا يزال البحث جاريًا عن اثنين آخرين، مضيفًا أن الإعلام سوف يذيع التفاصيل.
بالفعل، بدأ الإعلام بتداول صور للمتهم نقلًا عن وزارة الداخلية، ثم تداول فيديو لحظة دخول رجل يرتدي جاكيتاً منتفخة يمشي بخطوات نحو المصلى، الذي ينفجر بعد ثوان من دخوله المكان.
بعد تصريح السيسي، تداول المصريون على فيسبوك وتويتر، خبرًا قديمًا نُشر بتاريخ 15 مارس/آذار 2014، يشكّك في صحة كلام السيسي، ويفيد بالقبض على المتهم في قضية أخرى لانضمامه لجماعة الإخوان وبحوزته سلاح آلي وقنبلة يدوية. من جانبها ردت وزارة الداخلية بأن المتهم فعلًا تم القبض عليه في 2014 لكن تم إخلاء سبيله، وبعدها هرب لسيناء وانضم لجماعة أنصار بيت المقدس التي بايعت تنظيم داعش.
في الحقيقة، إن هذا الحادث وتفاعل الدولة معه جدير بالتأمل من جهات كثيرة؛ أولها إصرار السيسي في خطابه على عدم وجود تقصير أمني، وثانيها هي السرعة الكبيرة التي كشف بها النظام عن مرتكب الحادث رغم أن نوعية هذه الحوادث عادة يجري التكتُّم فيها على التفاصيل.
من الواضح أن الدولة تشعر بالخطر بسبب الاتهامات التي وجهت لها على وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ تفيد بأن النظام هو الذي دبر التفجير للتغطية على جرائمه السياسية. استندت هذه الآراء على الأخبار التي روجت عقب ثورة 25 يناير تتهم فيها وزير الداخلية، حبيب العادلي، بتدبير تفجير كنيسة القديسين.
نظام السيسي يمر بأزمة كبيرة الآن بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة، وجزء أساسي لاستمراره في السيطرة على الشارع المصري هو ورقة الحماية من الإرهاب التي يخرجها من وقتٍ لآخر، لكنه الآن بات مهددًا بهذا الحادث، فكان على رأس السلطة التحرك سريعًا والكشف عن الفاعل لتهدئة الرأي العام. والتأكيد على صلابة جهازه الأمني المهترئ.
أعلن داعش تبنيه للحادث الإرهابي مشيرًا في بيان له إلى أن المدعو، عبد الله المصري، فجّر نفسه داخل الكنيسة، وهذا الإعلان يضعنا في حيرة؛ فمن جهة، بايعت ولاية سيناء داعش منذ فترة، لكنها في نفس الوقت أعلنت عن اسم مستعار لمنفذ التفجير، لذلك لا نستطيع أن نجزم إن كانت رواية النظام بأن مصطفى شفيق هو المنفذ الحقيقي أم لا.
الحقيقة أن حكاية محمود شفيق لافتة للانتباه، فالشاب الذي بالكاد عمره 22 عامًا؛ هو من أسرة فقيرة، طالب بكلية العلوم ومتفوق علميًا، وتم اعتقاله وهو ما زال تلميذًا في المرحلة الثانوية. وحسب شهادة محاميته في القضية، فإنه لاقى تعذيبًا جسديًا عنيفًا أثناء فترة حبسه.
تضعنا حالة محمود في سؤال حول تورط الدولة المصرية في صناعة التطرف على أكثر من مستوى؛ أولها التعليم، ومفارقة الخطاب الذي ألقاه السيسي قبل أيام. يقول: "هيعمل إيه التعليم في بلد ضايع؟". هذا خطابٌ نلمس فيه تخليًا عن مؤسسة التعليم، وربما تحريضاً على الجهل، في سابقة لم تحدث من أي رئيس من قبل.
وتتبعًا لتفشي التطرّف في مصر وما تبعه من ممارسات للعنف جاءت مع نهاية السبعينيات، حيث تراجعت الدولة عن مشروعها في التعليم، وأعطت جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان، أوامر لشبابها بالالتحاق بكليات التربية حتى يتكوّن لديهم كتلة مسيطرة على المدارس. تبعت ذلك مباشرة استثمارات ضخت في إنشاء مدارس على الطابع الإسلامي؛ لذلك ليس من المستغرب أن تجد تفسيرات كتب الدين الرسمية بأن المسيحيين هم كفرة أو على أقل تقدير أهل ذمة وليسوا شركاء الوطن.
بعدها، استطاعت هذه الجماعات السياسية والفكرية اختراق الجامعات بسبب منع الدولة الطلاب من النشاط السياسي، خصوصًا في الكليات العملية مثل الطب والهندسة والعلوم التي لا تُدرّس فيها العلوم الإنسانية؛ فكان يسهل الاستقطاب السياسي بسبب عدم وجود جو تفاعلي، وهنا الأقدر على التنظيم والحركة هو الأقدر على الجذب.
في أكتوبر/تشرين الأول 2011، أصدر التليفزيون الرسمي نداءاته للشعب لمساندة الجيش المصري ضد مظاهرة الأقباط. عُرفت هذه بمجزرة ماسبيرو والتي تم فيها قتل حوالى 40 مواطنًا أغلبهم من الأقباط.
أظهرت حادثة ماسبيرو الخطاب الرسمي للدولة الذي لا يختلف عن خطاب الجماعات المتطرفة، وذلك بسبب تضارب مصالح الأقباط مع مصلحة السلطة.
إلى جانب أن الدولة، بعد كل حادث طائفي، تستعين بالجماعات السلفية لتهدئة الموقف، رغم تبني هذه الجماعات نفسها لخطاب تحريضي طوال الوقت تجاه الأقباط وحتى تجاه المسلمين المعارضين لفكرهم. هكذا، فإن الدولة المصرية بشكلها الحالي تتقارب مصالحها مع الخطاب الديني المتطرف لأن كليهما رافض لوجود مشروع مدني حقيقي يستند إلى القانون والدستور بشكل أساسي. لدينا سلطة سياسية لتحافظ على وجودها من خلال القمع، والجماعات الدينية المتطرفة تعطي السلطة مبررات لذلك.
إلى جانب تخلي الدولة عن دورها تجاه الشباب وتهميشهم، فإن قمعهم وممارسة العنف الممنهج ضدهم، خصوصًا، بعد ثورة يناير بات ينذر بانفجار مجتمعي وشيك، خاصةً مع ازدياد أعداد المعتقلين ونسبة التعذيب داخل السجون. هنا، سنجد أنّ محمود ضحية لما مورس ضده من تعذيب أثناء فترة حبسه، فكان كل همه هو الانتقام من النظام عن طريق عنف مضاد يحمل أفكارًا رافضة لأي شخص مختلف.
كثيرون اتخذوا طريق محمود بعد خروجهم من السجن فأنشأوا لجانًا نوعية هدفها استخدام السلاح ضد الدولة، في ما أطلقوا عليه اسم المقاومة. سيد قطب نفسه مفكر هذه التنظيمات المتطرفة سلك الطريق نفسه، بعد خروجه من المعتقل.
تصنع الدولة الإرهاب بكل الأشكال من أول خطابها المحافظ، الذي يحمل طابعه الطائفي، وأيضًا من خلال سياساتها القمعية وتخليها عن خيار الديمقراطية، ومن خلال سياسات التهميش والإفقار التي تمارسها على الشباب خوفًا منهم أولًا، وخوفًا على مصالحها قبل أي شيء.