النظام السوري و"قسد": العدو المشترك لا يصنع تحالفاً

09 ديسمبر 2019
شكلت "قسد" الذراع العسكرية لـ"التحالف الدولي" (دليل سليمان/فرانس برس)
+ الخط -
ظلّت العلاقة بين النظام السوري و"وحدات الحماية" الكردية، التي تقود "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، منذ عام 2012، مثار جدلٍ واسع، وخصوصاً لما شهدته من تقلباتٍ عميقة، راوحت ما بين التحالف الوثيق، والتناحر الذي كاد أن يصل إلى حدّ الصدام العسكري المباشر، قبل أن تبرز حاجة كل من الطرفين للآخر في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، مع بدء العملية العسكرية التركية في منطقة شرق نهر الفرات. اليوم، يبدو النظامُ السوري ماضياً في مخططه لتفكيك هذه القوات، بهدف استعادة سيطرته على الشمال الشرقي من سورية، في ظلّ محاولة مقابلة من "قسد" لترسيخ تعاونها مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، ومدّ جسور تعاون مماثلة مع الجانب الروسي، لتفادي محاولة النظام تحييدها أو تحجيم دورها في مجريات الأحداث المتلاحقة التي نتجت من التدخّل العسكري التركي. ويوم الجمعة الماضي، طالب رئيس ما يعرف بمكتب الأمن القومي لدى النظام، علي مملوك، وجهاء عشائر عربية وكردية بالمساعدة على حلّ "قسد"، من خلال سحب أبنائهم المتطوعين في صفوفها، وذلك خلال زيارة أجراها لمطار القامشلي في ريف الحسكة، الخاضع لسيطرة النظام والقوات الروسية.

وقالت مصادر مقربة من "قسد"، لـ"العربي الجديد"، إن مملوك اجتمع بقرابة 20 شخصاً من وجهاء العشائر العربية والكردية، وطلب من الشيوخ المدعوين سحب أبنائهم من "قسد" وإلحاقهم بصفوف قوات النظام. وبحسب المصادر، فقد كانت طلبات مملوك "أشبه بالأوامر"، وموجّهة تحديداً إلى مليشيا "الصناديد" التي يقودها حميدي دهام الهادي (المعروف كذلك بحميدي دهام الجربا)، وتعتبر من أكبر التشكيلات العربية ضمن "قسد".

وتشكل محاولة مملوك خطوةً جديدة من قِبل النظام في طريق تفكيك "قسد"، التي وُلدت من رحم النظام نفسه في خضمّ محاولاته لوأد الحراك الثوري شرق نهر الفرات عام 2012. وأسهم النظام ذلك العام في ولادة ما سُمي في حينه "وحدات حماية الشعب"، الذراع العسكرية لحزب "الاتحاد الديمقراطي" الكردي المعروف اختصاراً بـ"ب ي د"، فزودها بالسلاح والذخيرة، وأناط بها مهمة محاصرة الحراك الثوري في محافظة الحسكة في أقصى الشمال الشرقي من سورية، وفي مناطق عدة يشكل الأكراد السوريون أغلبية سكانها، مثل عين العرب (كوباني) شمال شرقي حلب، وفي عفرين شمال غربي حلب. بل ذهب النظام أبعد من ذلك في العلاقة مع "الوحدات" الكردية، التي تعد نسخةً سورية من حزب العمال الكردستاني، لدرجة أنه سلّمها أحياءً داخل مدينة حلب، أبرزها حيّ الشيخ مقصود، مقابل إسكات الشارع الكردي السوري الذي كان حينها يشارك الشارع العربي مطلب إسقاط النظام. ولطالما اتهمت فصائل المعارضة السورية الوحدات الكردية بمساعدة قوات النظام في محاربة "الجيش السوري الحر" في مناطق عدة في الشمال السوري.

ومنذ عام 2012، بدأت الوحدات الكردية تكبر رويداً رويداً، ليتسع نطاق نفوذها في سورية، خصوصاً بعد انضمام عدد من قادة "العمال الكردستاني" من جبال قنديل لتولي مناصب قيادية في "الوحدات". ولعل أبرز هؤلاء مظلوم عبدي، الذي تؤكد مصادر كردية مطلعة أنه كان أحد أهم المقربين من رئيس "الكردستاني" عبد الله أوجلان.

وجاء صعود تنظيم "داعش" في عام 2014 ومحاولته السيطرة على مدينة عين العرب (كوباني) أواخر ذلك العام، ليحدث النقلة الكبرى بالنسبة إلى "الوحدات" الكردية، إذ تحوّلت إلى ذراع عسكرية لـ"التحالف الدولي"، ما جعلها تبتعد عن النظام بعدما شعرت بأن الولايات المتحدة باتت نصيراً وظهيراً لها في الصراع الذي بدأ يأخذ أبعاداً إقليمية ودولية معقدة ومتشعبة. ومنذ ذلك الحين، بدأت العلاقة بين النظام والوحدات الكردية تأخذ منحىً مختلفاً عن الهدف الذي بُنيت لأجله، إذ تبدلت المصالح مع شعور "الوحدات" بأنها أصبحت لاعباً أساسياً في المشهد السوري. وأعلن حزب الاتحاد الديمقراطي، مع أحزاب كردية أخرى، قيام "الإدارة الذاتية" الكردية، في خطوة أكدت أن ملامح مشروع كردي لإنشاء إقليم ذي صبغة كردية في شمال شرقي سورية بدأت تتبلور اعتماداً على دعمٍ غربي، وجد في "الوحدات" رأس حربة لمقاتلة "داعش".


بدأت الوحدات الكردية بالتوسع الجغرافي على حساب "داعش" في مناطق ذات غالبية عربية، فبرزت حاجتها إلى غطاء عربي، لتظهر "قوات سورية الديمقراطية" ("قسد") في نهاية عام 2015، التي ضمّت فصائل عربية وسريانية وتركمانية كانت الوحدات الكردية في قلبها. وبدعمٍ أميركي كبير ومباشر، سيطرت قوات "قسد" خلال العامين 2016 و2017 على منطقة شرق الفرات التي تعادل ثلث مساحة سورية، أي نحو 60 ألف كيلومتر مربع، تضم أغلب ثروات البلاد المائية والزراعية والنفطية.

وفي أواخر عام 2017، اتهم رئيس النظام بشار الأسد، المنضوين في "قسد"، التي تشكل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي، بـ"الخيانة"، قائلاً في تصريحات تلفزيونية إن "كل من يعمل لمصلحة الأجنبي، وخصوصاً الآن تحت القيادة الأميركية (...)، كل من يعمل تحت قيادة أي بلد أجنبي في بلده وضد جيشه وضد شعبه هو خائن، بكل بساطة، بغضّ النظر عن التسمية، هذا هو تقييمنا لتلك المجموعات التي تعمل لمصلحة الأميركيين". ولم يتأخر رد "قسد" على الأسد، معتبرة في بيان شديد اللهجة، أنه اتهمها بالخيانة "لأنها قصمت ظهر الإرهاب في شمال سورية، وقلبت الطاولة على من كان يراهن على الإرهاب". وأعربت "قسد" عن عدم استغرابها لهذه التصريحات، واصفةً نفسها بأنها "جيشٌ وطني يحارب الإرهاب ويدحره في كل الميادين".

منذ ذلك الحين، بدأت "قسد" بتبادل الاتهامات مع النظام، وخصوصاً بعد شعور الأخير بأن هذه القوات تمردت عليه، وأفلتت كورقةٍ من يده. بعد ذلك، حاول الطرفان التفاوض والحوار تحت إشراف روسي لحسم مصير الشمال الشرقي من سورية، مع تصاعد التهديد التركي باجتياحه، إلا أن جولات التفاوض لم تُفضِ إلى اتفاق بسبب إصرار النظام على تفكيك هذه القوات وتسلُّم منطقة شرق الفرات منها، مقابل الاكتفاء بتقديم حقوق "ثقافية" للأكراد، لا أكثر.

في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بدأت العملية العسكرية التركية في منطقة شرق نهر الفرات، مع ما تشكّله من خطر وجودي على "قسد" التي وجدت نفسها أمام خيارين مُرّين: محاربة الجيش التركي وفصائل المعارضة، أو الهروب إلى الأمام باتجاه النظام. وجعل الانسحاب الأميركي من منطقة العمليات العسكرية "قسد" مكشوفة الظهر، فباتت صيداً سهلاً للجيش التركي المندفع من أجل تقويض مساعي إنشاء إقليم كردي في شمال شرقي سورية يعتبره خطراً داهماً على بلاده، لا بد من تقويضه بكل السبل.

في منتصف أكتوبر، أبرمت "قسد" اتفاقاً عسكرياً مع الروس والنظام يقضي بانتشار قوات الأخير وقوات روسية على الحدود لحمايتها من الهجمات التركية. وعلى الفور، بدأ تطبيق الاتفاق، فعبرت قوات للنظام مناطق "قسد" للانتشار على الحدود السورية - التركية لإيقاف العملية العسكرية التي أطلقتها أنقرة، وترافق ذلك مع دخول قوات روسية أيضاً إلى مناطق ونقاط عدة، وخصوصاً في ريف حلب الشمالي الشرقي وفي ريف الرقة الشمالي، إضافة إلى مطار القامشلي الذي بات أشبه بقاعدة عسكرية روسية.

وحقق اتفاق أكتوبر الماضي مصالح الطرفين (النظام و"قسد")، إذ أتاح للأول العودة بقوة مرة أخرى إلى منطقة شرق نهر الفرات، وهو ما لم يكن في حسبانه في ظلّ الحماية الأميركية العسكرية والسياسية المباشرة لـ"قسد". وشكّل الاتفاق فرصة لا تُفوَّت للنظام، للتغلغل في الشمال الشرقي الذي يمثل بنظر الكثيرين ما يسمى "سورية المفيدة" لغناه بالثروات. ويتعامل النظام مع هذه المنطقة باعتبارها مدخلاً واسعاً للسيطرة مجدداً على شرق نهر الفرات. من جهة "قسد"، فإن الاتفاق جنبها خطر الاجتثاث من قبل الجيش التركي. لكنها تدرك أن النظام لن يكتفي بدور الحارس لمناطقها، وأنه سيسعى بكل السبل لقضم هذه المناطق وتحييد، أو على الأقل تحجيم، دورها في الصراع الدائر على المنطقة، خصوصاً مع قبول الجانب التركي بعودة النظام إلى الشمال الشرقي، لكون هذه العودة تنهي محاولة إنشاء إقليم كردي هناك.

ويصف بسام إسحق، عضو الهيئة الرئاسية والرئيس المشترك لممثلية "مسد" (المجلس السياسي لـ"قسد") في واشنطن، في حديث مع "العربي الجديد"، العلاقة بين هذه القوات والنظام، بأنها عبارة عن "تفاهمات عسكرية بوساطة روسية لدرء أي تدخل عسكري خارجي". وحول آفاق هذه العلاقة، يشير إسحق إلى أن الطرفين "لم ينخرطا حتى الآن في حوار يؤدي إلى اتفاق سياسي".

من جهته، يؤكد الكاتب السوري الكردي إبراهيم مسلم، المقرب من الإدارة الذاتية الكردية، أن العلاقة بين النظام و"قسد" علاقة "توافق إجباري مؤقت"، مضيفاً في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "عندما يحقق النظام مسعاه، سيقضي على قسد، وهي تدرك ذلك جيداً". ويشير إلى أن "قسد تسعى لإيجاد بديل للنظام"، مضيفاً أنها "لا تزال تعوّل على الدول العظمى، على الرغم من أن هذه الدول خذلتها في أكثر من موقف، سواء أجاء هذا الخذلان عبر الولايات المتحدة أم الدول الأوروبية أم حتى روسيا".