النظام الجمهوري العربي بين الإخفاق الشمولي والبديل الإشكالي

16 ابريل 2019
+ الخط -
من بين النتائج التي تُستخلص من الربيع العربي، لا سيما في صيغته الجديدة التي نشهدها في كل من السودان والجزائر، أن الأنظمة الجمهورية في العالم العربي أثبتت فشلها بصورة عامة. هذه الأنظمة التي استندت في غالبيتها إلى "شرعية" الانقلابات التي نفذتها الأجنحة المتصارعة في جيوش الكيانات السياسية التي برزت بعد الحرب العالمية الأولى في هيئة دول. ثم اكتسبت مزيداً من مقومات الدولة بعد الحرب العالمية الثانية؛ ولكن الجيش، في جميع الأحوال، كان يتحكّم فيها، ويقرّر مصيرها. وللتغطية على ذلك كله، كان اللجوء إلى الشعارات والمزاعم الكبرى، سواء التحرّرية القومية منها، أم الثورية والاشتراكية. ولعله من المناسب، في هذا المجال، أن يُشار إلى تفرّد كل من لبنان وتونس بدرجاتٍ متفاوتة، وذلك مقارنة مع بقية الأنظمة المعنية التي كان الجيش فيها، وما زال، المحدّد الأول للسياسات. 
بالنسبة إلى لبنان، كان لـ"الطائفية الدستورية"، إذا صح التعبير، دور كبير في إبعاد البلد، ولو في الحدود الدنيا، عن مناخ الهزّات التي تعرّضت لها الأنظمة الجمهورية الأخرى. وما نعنيه بذلك أن البلد قد بُني أساساً على قاعدة توزيع الصلاحيات والمواقع الوظيفية الهامة بين مختلف الطوائف، وفق قواعد معروفة للجميع؛ تم الالتزام بها في مختلف المراحل، بما في ذلك مرحلة ما بعد الحرب الأهلية التي توجت باتفاقية الطائف التي أدخلت شيئا من التعديل على نظام المحاصصة الطائفية، ولكنها لم تمسّه في الجوهر، ولم تُحدث تحولاتٍ بنيويةٍ في تركيبته الأولى، هذا على الرغم من محاولات التأثير على إرادة الطوائف، أو إبعاد هذا الشخص أو ذاك سياسياً أو فيزيائياً، ليكون البديل منسجماً مع مزاجية وحسابات المتحكّمين في البلد، والمتدخلين 
في شؤونه، خصوصا من الجانبين السوري والإيراني.
أما في تونس، فقد أدّت الشخصية القيادية للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وتوجهاته الواقعية، وشعبيته الوطنية لدى مواطنيه، على الرغم من استبداديته، دوراً أساسياً في استقرار البلد، وعدم إتاحة المجال أمام ضباط الجيش للتحكّم في مفاصل الدولة والمجتمع وفق مصالحهم، أو بناء على توجيهات من يدعمهم. ولعل هذا ما يفسّر عدم تمكن الانقلاب الذي تعرّض له لاحقاً من زين العابدين بن علي، في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، وهو الانقلاب الذي أخرجه من السلطة، وأبعده عن الأضواء، من تجاوز التقاليد التي كان بورقيبة قد أرساها. وهذا ربما يلقي بعض الضوء على سلوكية الجيش التونسي الذي حرص على الالتزام بالدور الموجه من خلف الستار.
أما في بقية الأنظمة العربية الجمهورية، فقد حرص الجيش على التحكّم في كل شيء، وكان، في معظم الأحيان، يُستخدم واجهةً حزبيةً هزيلة، ترفع شعاراتٍ كبرى، أثبتت الأحداث والتطورات زيفها، وطابعها التضليلي. وكانت الهرطقة الثوروية التي استُلهمت من التجربة الشيوعية، وتمثلت في حكم مركزي شمولي، لم يكن فيه أي مجال للاختيار وإبداء الرأي. بل كان يعامل كل منتقد له أو داعٍ إلى الإصلاح معاملة "الخائن الرجعي"، "المرتبط بالدوائر الإمبريالية والصهيونية". ولعله من المناسب، في هذا السياق، وبعد كل هذه الأحداث الكارثية التي شهدتها دول الأنظمة الجمهورية، طرح السؤال الافتراضي: ألم يكن من الأفضل لهذه الدول لو اعتمدت منذ البداية صيغةً من صيغ الحكم الملكي الدستوري، الأمر الذي كان سيحل مشكلة الخلاف حول موقع الرأس الأول للدولة على الأقل، وتكون هناك انتخاباتٌ ديمقراطيةٌ نسبياً بين مختلف الأحزاب على رئاسة الحكومة، عوضاً عن بدعة مجلس قيادة الثورة الذي كان يضم مجموعة من المتعطشين للسلطة، كانوا يدّعون، في البداية، أنهم يحكمون بأسلوب القيادة الجماعية، ثم انتهى بهم المطاف إلى تسلط الأكثر انتهازية وقدرة على المناورة، والأخبث القادر على التحكّم في أسباب القوة، ليتخلص لاحقاً من رفاق الأمس، ويفرض نفسه زعيماً 
أوحد، يمارس أبشع أشكال الحكم الدكتاتوري، يكتم أنفاس الجميع عبر شبكةٍ من الأجهزة الاستخباراتية، وبمعونة سلسلةٍ من الأتباع الذين يكتفون عادة بالفتات، من دون أن يطرحوا أنفسهم أنداداً يتنافسون على موقع الزعامة، أو يهدّدونها. هذا ما حصل في مصر وسورية والعراق، كما حصل في السودان وليبيا واليمن.
ولإسباغ قسطٍ من الشرعية الشكلية على حكمهم، لجأ هؤلاء الحكام، في الجمهوريات ذات الحكم المطلق، إلى بدعةٍ تضليلية أسموها الاستفتاء، بحجة الرجوع إلى المواطنين لمعرفة رأيهم في استمرارية الحاكم من عدمها. وكانت النتائج المعروفة لصالح هذا الحاكم، ونسبة الموافقين وفق النتائج المحددة مسبقاً هي الـ99.99%، وظل صدام حسين الاستثناء، إذ أعلن عن فوزه بنسبة 100%، في تحدٍ واضح وسافر للداخل والخارج، وبيان أن إرادة الحاكم فوق الجميع.
لم تنجز الأنظمة الجمهورية العربية، المطلقة الصلاحيات، في عهود الدكتاتوريات العسكرية أي شيء يذكر يعتدّ به ويُبنى عليه. ولم تتمكّن من حل أبسط المشكلات. ولم تساهم في تطوير المجتمعات التي حكمتها، على الرغم من توفر الموارد الطبيعية والبشرية الضرورية لذلك. بل كان النظامان، السوري والمصري، يحصلان على دعم سخي من الدول الخليجية، وذلك في إطار إسهام الأخيرة في معركة التحرير "الوجودية مع العدو الإسرائيلي"، أو "معركة الوجود"، وذلك بموجب الشعارات التي كانت تستخدم عادة من النظامين المعنيين لتسويغ تقاعسهما في كل الميادين التي لها علاقة بتأمين حاجات الناس، وتوفير فرص العلم والعمل للأجيال الشابة.
ما تشهده المجتمعات التي اختطفتها الأنظمة الجمهورية الثوروية القوموية الشعبوية من هشاشةٍ وانهياراتٍ في مختلف الميادين، وما تتسم به من فساد عام أسفر عن كوارث في القطاعات الزراعية والصناعية والتجارية والتعليمية المعرفية، إنما هو حصيلة منطقية لتراكمات عقودٍ من الحكم العسكري المستبد الفاسد المفسد، وما ترتب على ذلك كله تمثّل في تدنّي مستويات المعيشة إلى حدودٍ لا معقولة مخيفة، في مقابل حصول فئة قليلة على ثرواتٍ خياليةٍ، بفعل تشاركها مع البطانة القريبة جداً من الحاكم، بل ومع الحاكم نفسه. هذا في حين أن الطبقة الوسطى التي كانت تعتبر في المجتمعات المعنية عامل الاستقرار والاعتدال، قد تلاشت بصورةٍ شبه نهائية، الأمر الذي وضع المجموعات الفاسدة من حاكمةٍ وطفيلية في مواجهة أوسع القطاعات الشعبية المحرومة من كل شيء.
وفي ظل غياب الطبقة الوسطى، وعدم وجود أحزابٍ قويةٍ ببنيتها التنظيمية ورصيدها الشعبي، 
إلى جانب مصداقيتها وقدرتها على إيجاد الحلول، كان اللجوء إلى القوة العسكرية لإرغام الناس على القبول بوضعٍ لا يعطيهم أي أملٍ في إمكانية التحسن نحو الأفضل، ما أجبرهم على مواجهة تحدياتٍ تفوق إمكاناتهم التنظيمية والمادية، فكانت التدخلات الخارجية من القوى الإقليمية والدولية المعنية بشؤون هذه الدول. وهكذا تطورت الأمور وتفاقمت، حتى وصلت إلى حدٍ باتت بموجبه إمكانية الخروج من الوضع المعقد المستعصي شبه متعذّرة، إن لم نقل مستحيلة.
أشباه سلطات حاكمة، عاجزة عن اتخاذ أي قرار بمعزلٍ عن الرعاة من أصحاب المصالح. ومعارضات تعاني من الفوضى والهلامية، وعدم القدرة على اتخاذ القرارات المطلوبة. وفي مناخاتٍ كهذه، من المفروض أن تتحرّك النخب من مختلف التوجهات، وتسعى من أجل تجاوز الخطوط المرسومة وفق مقاسات الولاءات ما قبل الوطنية، لتتمكّن من التوافق على قواسم مشتركة، تجمع بين مختلف التوجهات والمواقف لصالح مشروع وطني. وأمر من هذا القبيل لن يكون ممكناً من دون التوافق على أمرين أساسيين: الفصل بين الدين والسياسة. الفصل بين الجيش والعمل الحزبي والسياسي بصورة عامة. وذلك لتصبح الدولة محايدة دينياً وقومياً وإيديولوجياً، ولا يتحكّم فيها الجيش، بل يصبح هذا الأخير مؤسسةً من مؤسسات الدولة، تنظم وتسيّر بموجب القوانين والتشريعات والقواعد التي تقرّرها الهيئات المنتخبة بإرادة المواطنين، وتنفّذها حكوماتٌ تخضع للمساءلة والمحاسبة الديمقراطية أمام ممثلي الشعب. أما الحلول الترقيعية التي تُقدمها وتسوّقها الأنظمة المأزومة والمشرفون عليها، أو من المستفيدون منها، لا سيما من أدعياء اليسار والعلمانية والمقاومة والممانعة، فهي من قبيل الدعوة إلى تجريب ما تيقنّا، بالأدلة الملموسة، من عقمه وفساده، واستعصائه على أي إصلاح.
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
عبد الباسط سيدا

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

عبد الباسط سيدا