النسوية السعودية المعلقة في الهواء

26 أكتوبر 2017
+ الخط -
قادت 47 امرأة سعودية في العام 1990 أول مظاهرة احتجاج بالسيارات في الرياض، للمطالبة بحق القيادة مثل الرجل. ودونت قصة أولئك النسوة في كتاب بالعربية "السادس من نوفمبر.. المرأة وقيادة السيارة 1990". ودفعت المحتجات ضريبة غالية لممارسة ذلك الاحتجاج السلمي؛ حيث منعن من السفر، طردن من وظائفهن، وتم تأليب الرأي العام ضدهن. ولم تكن تلك الحملة التاريخية الأخيرة، وإنما تبعتها حملات مختلفة للمطالبة بالحق نفسه، منها التي قادتها الكاتبتان وجيهة الحويدر وابتسام المبارك، في 2009، لجمع تواقيع تطالب السلطات بالسماح للمرأة بقيادة السيارة، ثم تلتها حملة منال الشريف في 2011 لقيادة السيارة، وسجنت الشريف لاحقاً. كما تقدم عضو مجلس الشورى السعودي، محمد الزلفي، باقتراح أثار الجدل، في بداية الألفية، رفع الحظر عن قيادة المرأة للسيارة... وتؤكد هذه الحملات أن هناك ناشطين/ ناشطات ومثقفين/ مثقفات في السعودية طالبن، ولازلن يطالبن، بالحقوق المختلفة. لكن هل النسوية المُطالبة بحقوقها عُضوية أم نسوية تقليدية/ موظفة أيديولوجية؟
لا تدّعي هذه المقالة أن النسوية السعودية إما أن تكون تقليدية أو عضوية فقط، فالفكر النسوي يحتوي على أطياف ومفاهيم وأشكال متنوعة. وهذه المقالة محاولة لتصوير أحد أنواع النسويات عبر إسقاط مفهوم/ نظرية المثقف لدى غرامشي على النسوية في السعودية، ولا تستهدف التقليل من شجاعة اللاتي كن ولازلن يطالبن بأبسط حقوقهن، مواطنات ومقيمات، كالمطالبة بحق قيادة السيارة، والأهم منه إنهاء نظام ولاية الرجل على المرأة الذي يعرقل حياة المرأة قانونياً، اجتماعياً، سياسياً وثقافياً. بل تسعى هذه المقالة إلى فهم الفكر الذي تنطلق منه النسوية، للمطالبة بحقوقها، وبالتالي ضمان ديمومة التغيير الاجتماعي، فالسؤال هو: هل تؤدي النسوية دورها، بوصفها مثقفة تستجدي التغيير عبر التمسك بعباءة السلطة السياسية الأبوية، والاستمرار باستجدائها. أم أنها تنطلق باعتبارها فردا عضويا حاملة همها، وهمّ أفراد المجتمع الذي تنتمي إليه عبر التنظيم الجماعي، في سبيل إصلاح وتغيير شاملين. ولفهم ذلك، يتم التركيز هنا على النسوية الناشطة بالتحديد.
ترى كاتبة هذه السطور أن النسوية التقليدية (الإيديولوجية) تفتقر للنقد الفكري، وتعيد غالباً
 سكب خطاب الأيديولوجيا الذي خطه النظام، على سبيل المثال، في المواد المدرسية أو في الخطاب الإعلامي، وتمرّره على مسامع المجتمع، وقد توظف النخبة التقليدية من النسويات البلاغة اللغوية لتنظيم المشاعر الجماعية الجارفة، والمساهمة في نزع فتيل الحراك الاجتماعي والإصلاحي السياسي. وفي المقابل، تستمتع الموظفة الأيديولوجية التقليدية بالامتيازات التي تمولها وتوزعها نظام الرفاه (الريعي) على الأفراد الموالين للدولة. في حين أن النسوية العضوية تتميز بالنقد الفكري المستقل وتوجيه أفكار (وتطلعات) المجتمع الذي تنتمي له في سبيل التحرر السياسي والفكري والثقافي. تلتحم مطالب النسوية العضوية بالمجتمع، وتسعى إلى تأمين العلاقة بين النظرية والممارسة. وتتجاوز النسوية العضوية الخطابات الرنانة والبلاغية إلى المشاركة الفعلية والفاعلة، لإقناع الجموع بالتغيير والإصلاح الشامل.
تكشف الإحصائيات أن سعوديات كثيرات يحملن الشهادات العليا، وأن عدد الفتيات اللاتي أنهين دراساتهن الجامعية أكثر بكثير من الذكور، وهذا يدل على أن المملكة تضم عددا هائلا من المثقفات، أو يمكن القول، حسب غرامشي، إن كل البشر (النساء في هذه الحالة) مثقفات، لكن ليس الجميع يؤدي وظيفة ثقافية (نسوية) في المجتمع. تتمثل تلك الوظيفة في بلورة فكرية تهدف إلى التغيير الاجتماعي، أو عبر تشجيع أنماط فكرية ثورية. المملكة مليئة بصحافيين، كتاب، ممثلين، فنانين، مهندسين وأطباء وغيرهم، لكن كثيرين منهم يُعتبرون من مثقفي البلاط أو الأمير، وولاؤهم الأول والأخير لأيديولوجيا الدولة.
ما تحاول المقالة قوله أن الحقوقية النسوية السعودية لا تميزها ثقافتها التعليمية، وإنما دورها الحقوقي الاجتماعي الإصلاحي. يحوي الحراك النسوي السعودي على أشكال ونماذج مختلفة، منها الناشطة النسوية التي تطالب بالتغيير عبر العرائض، أو عبر نشاطها في مؤسسات الدولة "الأبوية". يساهم هذا النموذج النسوي، بشكل أو بآخر، بوعي أو بدونه، في إخضاع (وترويض) الجماهير النسوية لسلطة الدولة. وغالبا ما تكون هؤلاء النسويات من الطبقة الثرية والطبقة ما فوق المتوسطة، وقد منحن امتيازات قانونية ومالية وبيروقراطية تجعلهن مساهمات فاعلات بلغة ناعمة وفصيحة في قمع الخطاب النسوي المنشق الذي ينتقد الدولة في الداخل والخارج، وتتجاهل هذه الطبقة النسوية تماماً مصالح القاعدة الاجتماعية العريضة، وهذا النموذج مثال على النسوية الإيديولوجية أو التقليدية.
يفرّق النظام السعودي البراغماتي، عند العقاب، بين النسويات المطالبات بضرورة الإصلاح السياسي لضمان الحقوق الاجتماعية والمدنية ونسويات الحقوق الاجتماعية (فقط) اللاتي يتجنبن انتقاد النظام، وعوضاً عنه يتبنين خطاب الدولة، فينتقدن القوى الدينية الرجعية، والمجتمع لممانعته للتغيير، وحرمان المرأة من حقوقها. وبذلك تتفادى النسوية التصادم المباشر مع السلطة الشمولية. النسوية التي تتبع هذا المنهج للمطالبة بالتغيير هي، من وجهة نظر السلطات، لا تتحدى النظام الأبوي السياسي، لأنها لا تلومه بشكل مباشر، لحرمانها من حقوقها. لذلك، تتعرّض المحتجات من هذه الفئة من النسويات لعقاب أقل، بالمقارنة مع نسويات الإصلاح المدني الشامل. على سبيل المثال، العقاب للنساء اللاتي تحدين حظر قيادة السيارة كان أياما معدودة من الحبس، ومن ثم تم إطلاق سراحهن، حتى يعاقبن ويتعرّضن لنهش المجتمع المتدين.
لكن الخطاب النسوي الإصلاحي هو الخطاب العضوي الذي تخاف منه الدولة، لأنه يهدد وجودها ويتحدى نظامها. لذلك، لا تتردد الدولة في أن توقع أشد أنواع العقاب على النسويات اللاتي يؤمن بضرورة الإصلاح السياسي لضمان الإصلاح الاجتماعي، والذي يتضمن (نظرياً) المطالبة بدولة ديمقراطية مدنية وبملكية دستورية و(ممارسةً) يعني تعبئة أفراد المجتمع في سبيل إحداث التغيير، ويتأكد لنا شعور النظام بالتهديد من هذه الفئة، عندما نعي أن أغلبية الإصلاحيين يرزحون في السجون منذ سنوات، عدا من تم إعدامهم بدون محاكمات عادلة، وغيرهم ممن سحبت جوازات سفرهم.
هناك كثيرات من نسويات "حقوق المرأة الاجتماعية" التقليديات، أو الموظفة الإيديولوجية، وهناك إرهاصات لولادة نسوية عضوية، ولكن للأسف تُجهض إمكانية التطور الفكري العضوي مبكراً، إما عبر احتواء الأبوية السياسية لها، وذلك كما شهدنا مع حالة إحدى أشهر ناشطات قيادة المرأة للسيارة التي رأت في المرسوم الملكي الذي سمح، أخيرا، للمرأة بالقيادة، مكافأة عظيمة من النظام الأبوي الذي سبق أن سجنها للمطالبة بالحق نفسه، أو قد يجهض التطور العضوي، عبر عقاب النسوية العضوية وحرمانها من الامتيازات، وتعريضها للنبذ الرسمي والاجتماعي، أو في أسوأ الحالات تجبر على الهجرة والنفي.
معروف أن المملكة دولة أتوقراطية، تشكلت عبر علاقة زواج بين العقيدة الوهابية الدينية ونخبة آل سعود الحاكمة. وهذا الزواج السياسي ذو أهمية بالغة، لأنه يمثل البديل للشرعية السياسية التي تفتقر لها الدولة السعودية الحديثة وضمان لإستمراريتها.. ويبرّر هذا العقد "الميكافيلي" الذي لايزال المصدر الأساسي لتشكل الدولة استخدام كل الوسائل التي تضمن غاية بقاء "الأمير" في السلطة. وتجعل هذه الأجواء من الصعب وجود حراك يضم نسويات عضويات، لأن الحراك النسوي السعودي لم يمر بأي تطور مرتبط بمثقفات عضويات ناقدات. وما زالت
 النسوية في السعودية تفتقد القدرة على الوصول إلى الشعور المحلي وتنظيمه في سبيل تشكيل الوعي والإدراك النقدي. عجزت النسوية في السعودية عن تطوير وعيها في شكل تنظيمي، يخلصها من النظام السياسي البطرياركي (الأبوي). وهي مشتتة، وتفتقر إلى السياسة الثورية التي أهم شروطها تأمين العلاقة بين النظرية والممارسة. أغلبية النسويات السعوديات، المرئيات منهن والمعروفات، واللاتي ينطلقن من الداخل السعودي، لا يمكن أن يطلق عليهن صفة العضوية في حراكهن، بل إنهن نسويات تقليديات، يتفاوتن في مستوى الولاء الأعمى للنظام الأبوي. لكن هذا لا يعني أنه لا توجد نسوية عضوية في الداخل على الأقل من الناحية النظرية. هناك بالفعل نسويات ناقدات وواعيات، لكن الخوف والنتائج المترتبة من التصادم مع السلطة يشل رغبتهن في التنظيم. وهناك أيضاً نسويات عضويات في المنفى، لكنهن غير مفعلات أو فاعلات بسبب المسافة الجغرافية التي تعيق إمكانية العمل العضوي المباشر في قلب المجتمع. لذلك أطلق على هذه المجموعة الأخيرة النسويات "شبه العضويات" أو غير المفعلات، لأنهن يملكن الوعي والفهم لضرورة العمل العضوي لضمان التغيير والإصلاح الاجتماعي والسياسي، لكنهن يفتقرن للوسائل والأدوات والنضج.
يرزح الحراك النسوي في السعودية تحت رحمة مزاجية النظام السياسي الأبوي وتقلبه. لذلك ليس غريبا أن الملك الحالي هو الذي سجن، قبل 27 عاماً، النساء اللاتي مارسن الاحتجاج بقيادة السيارة، وأصدر قبل أسابيع مرسوما ملكيا يسمح بقيادة المرأة للسيارة. وهو الملك الذي نشر ذراعه الإعلامي وسم #الملك_ينتصر_لقيادة_المرأة، للتأكيد على أن قضايا المرأة ستبقى تحت مظلة النظام الأبوي السياسي، وستمنح الحقوق مكرمات من الملك متى يحلو له. في هذه الأجواء، ستبقى النسوية العضوية الحقيقية معلقة في الهواء، حتى حدوث تغيير دراماتيكي في النظام السياسي السعودي، يسمح بولادتها، أو تفاجئنا النسويات شبه العضويات بتنظيم أنفسهن، وتعبئة المجتمع نحو الحرية والمساواة.
5412BF0B-EFA5-4615-9E3D-ADDF21848F59
هناء الخمري

كاتبة يمنية مقيمة في السويد متخصصة في دراسات النزاعات والسلام