النزاهة في الموسيقى... عزف بلا إعادة

21 يونيو 2020
بدأ استخدام تقنية الـ playback في السينما (Getty)
+ الخط -
قصة جيسيكا هندمان قصة. درست العزف على آلة الكمان لمدة تزيد عن العشر سنين. ظلّ حلمها وهي شابة أن تحترف الموسيقى، فكان لها ذلك؛ فقد قرأت ذات يوم إعلاناً عن مسابقة توظيف عازفين ضمن فرقة أوركسترا مقرّها مدينة نيويورك، لقاء أجرٍ سخي ينتشلها من شظف العيش، يمنحها مخرجاً من رتابة الحياة وفرصةً للتمتّع بسيرة فنّية لطالما طمحت إليها.

بلا تردد، تقدّمت هندمان إلى المسابقة ليُقبَل طلبها بيُسر ومن دون عناء يذكر أو أي اختبار جدّي يُعتبر. إلا أنها لم تع حينها، أنها وبصُحبة تلك الفرقة، ستجوب أميركا والعالم حتى الصين لأربع سنوات كاملة، تُحيي خلالها مئات الحفلات، وتبيع آلاف السيديهات، من دون أن تعزف نغمة واحدة.

روت السيدة التي استقالت من الأوركسترا المزيفة مُنصرفةً إلى دراسة الكتابة الأدبية ومن ثم تدريسها، قصتها الغريبة والمريبة ضمن كتاب أصدرته بعنوان "شبيه التايتانيك" The Titanic-like، وغطّته الـ "بي بي سي" مؤخراً ضمن تقرير صحافي. من دون ذكرِ اسم الفرقة أو مديرها وقائدها، يحكي الكتاب بلسان هندمان كيف استطاعت تلك الأوركسترا أن تخدع ألوف الناس عن طريق تسجيل الموسيقى داخل أستوديو أولاً، أو حتى سرقة مقاطع مُسجلة لفرق أخرى أحياناً، ثم بثها ثانياً عبر مُكبّراتٍ للصوت أثناء الحفل الحيّ، فيما تؤدي العازفات والعازفون على خشبة المسرح حركات جسدية محض تمثيلية.

العزف أو الغناء بتقنية "الإعادة" Playback بات اليوم من بديهيّات المشهد الفني. مع ظهوره أولاً كأحد الحلول التقنية لتصوير الأفلام الغنائية، حيث من الصعوبة بمكان تسجيل مُنتَجٍ سمعي نقيّ في أجواء موقع تصوير صاخب ومُزدحم، ثم صار وسيلةً بيد المُمثلين من ذوي الأصوات المتواضعة بغية الظهور على الشاشة بمظهر المُغني القدير. وسائل ازدهرت إبان طفرة السينما الغنائية في الهند وباكستان منتصف الخمسينيات، إلى أن أصبحت عماد تلك الصناعة حول العالم، وواحدة من ركائزها التقنية الأساسية.

بيد أن التطور التكنولوجي المضطرد، زاد من فاعلية الـ Playback بل ومن أهميته، إذ إنه ومع ظهور التلفزيون وبزوغ عصر البث الحي Live؛ حيث أصبحت العروض الفنية تُنقل آنياً وعبر الهواء مباشرةً إلى الملايين من المشاهدين، اكتسب التسجيل بأسلوب الإعادة أهمية قصوى، في حال حدث طارئ أثناء البث، أو فيما لو وقع خللٌ تقنيّ مُباغت.

هنا، قد يُنقذ الـ Playback الموقف، بل إنه قد يُصبح الملاذ الآمن؛ إذ لا فائدة من المجازفة عبر أداءٍ حي على الهواء مباشرة، إن لم يتوفر على الأقل تسجيلٌ مُعدّ مسبقاً، جاهزٌ للتدخل، في حال حدوث مفاجأة ما.

الأمر كذلك بالنسبة للعروض الكبرى. مع انتشار الموسيقى الجماهيرية Pop Music، وتحوّلها إلى صناعة هي الأخرى، تبيع مئات الألوف من التذاكر، تملأ الملاعب الرياضية، بمُكبرات الصوت العملاقة تزلزل الأراضي العشبية، مُحوّلةً الحفلات الفنية إلى عروض حيّة تدخل عليها المؤثرات الضوئية والمُفرقعات النارية، فتؤول التجربة الموسيقية حالاً من هرجٍ ومرج. حتى بات من المشقّة بمكان على أعضاء الفرقة الاستماع إلى بعضهم أثناء العزف، فيما هم على الخشبة يدبكون ويرقصون. ما حدا بفرقٍ كالبيتلز مثلاً إلى اجتناب الأداء الحيّ نهائياً والاكتفاء بالـ Playback.

بالنسبة إلى مُنتِجٍ فنّي حذِق عينه على الربح دون غيره، لن يستغرق وقتاً طويلاً لكي يرى في الـ Playback فرصة ذهبية لجعل أي حسناءَ فاتنة أو شاب حسن الطلعة نجوماً تتألق أنواراً في أسواق الفن. في عام 1980، تمكن المُنتج الفني الشهير فرانك فاريان من خلق فرقة بوب موسيقية باسم ميلي فانيللي Milli Vanilli أصدرت عديداً من الألبومات عالية الجودة، تصدّرت الصحف والمجلات الفنية، وشاركت في البرامج والعروض التلفزيونية، حتى إنها حصدت جائزة غرامي Grammy عام 1990. كل ذلك، من دون أن يُغنّي أو يعزف أي من عضويها الاثنين، الشابين الوسيميين، في أيّ من الأغاني التي كانت مُسجّلة مُسبقاً، بآلات وحناجرَ محترفين، بُثّت جميعها خلال العروض الحية بطريقة الـ Playback.

يبقى التساؤل، هنا، هل من حدود جليّة في عالم الفن تُرسم ما بين النزاهة وبين التحايل؟ من الجلي في قضية الفرقة التي عملت ضمنها السيدة هندمان، ألا مخالفة قانونية صارخة ارتكبها قائدها بمُجرد اتكاله على العزف بطريقة الإعادة. وإلا، لكان قد تعرض إلى التحقيق والملاحقة القضائية فوراً إن لم يكن قبلَ صدور الكتاب. لا سيما أن الفرقة، بحسب هندمان، ما زالت تُحيي الحفلات على ذات النهج وبنفس الطريقة. أضف إلى ذلك، عدم اعتراض المسارح التي تستضيفها أو القنوات التلفزيونية التي تنقل الأماسي الفنية، على الهواء كانت، أم مُسجّلة.

لم تكن الفرقة تعزف أمام جمهور من الطراز الأول، ولا على مسارح شهيرة وضمن فعاليات مهرجانات مُعتبرة. وإنما حصرت ظهورها ونشاطها ضمن مستوى أدنى لجهة السُمعة والذائقة، الأمر الذي يسَّر تمرير تزييف العزف عن طريق الإعادة. ففي بيئة ثقافية دُنيا، من الطبيعي أن تُغّلب سمة العرض على صفة الحفل، وأثر الاستعراض على قيمة الأداء، والمتعة الحسية على الجرعة الجمالية. فالفرقة وما تُقدمه من مُنتج مرئي بالأساس، يُصاحبه مُنتج صوتي مُعلبّ ومُعدّ مُسبقاً، هدفها الواضح ضمن سياق تجاري محض، هو جني المال.

بيد أن هُناك أحياناً كثيرة ممارسات خفية من التزييف الفني تقع، إنما في مستويات أرقى وأرفع. ففي الكثير من الأعمال الموسيقية التي كُتبت، سواءً لفِرق حجرة أو أوركسترا كبيرة، مقاطع قد تخيّلها المؤلف، ثم خطّها على الورق، بينما يستحيل في الواقع تنفيذها على المسرح وأمام الجمهور.

قد لا يكون المؤلف في هذه الحالة مُلمّاً بحدود وإمكانية آلة من الآلات، أو يكون عبقرياً قد جعل من موسيقاه تحديّاً مفتوحاً على المستقبل من شأنه أن يوسّع أفق العازف ومدى مهارته، أو تقتصر غايته على الأثر الاستعراضي وحسب، لجهة الصوت أو الصورة أو كليهما، من دون التشبّث بالضرورة، في السر أو في العلن، على عزف كل نغمة بأمانة ومصداقية.

أعمال تختص الحقبةُ الرومانسية المتأخرة بهامش فضفاض منها، خصوصاً حينما تميّزت الموسيقى بمُميِّز الإبهار السمعي والمرئي، كسيمفونيات المؤلف النمساوي غوستاف ماهلر 1860 - 1911 Gustav Mahler وأخرى للألماني Richard Strauss 1864 - 1949 منها على سبيل مثال القصيدة السيمفونية المعروفة "دون خوان"، تحتوي جُملاً موسيقية لا تزال إلى اليوم بالنسبة إلى كثيرٍ من العازفين الأكفّاء من بين أولئك المُحترفين، عصيّة على التنفيذ في كل مرّة ومناسبة نظراً لصعوبتها الفائقة. هنا، تتغاضى العديد من الفرق عن التزييف، ما دام لن يؤدي إلى إضعاف الأثر الجمالي، ولن يؤثر بالضرورة في قيمة العمل الفنية أو حمولته الفكرية.

إن تحايلات كالإيحاء والإخفاء لهي من بين جملة أدواتٍ في حوزة الفنان، له أن يستعملها متى يشعر ويرى في صناعة الدهشة، في خلق فضائه الخاص وكونه السحري الموازي. لئن تضاءل اللجوء إليه مع تطّور المقدرة الأدائية، فقد يكون التزييف ضمن تلك الرؤية أمراً مشروعاً، ما دام يخدم غاية أسمى من الناحية الفنية؛ هي الاستئثار بخيال المُستمع والإبحار به في عوالم جديدة تعود عليه بالتجربة الحسية وبالمتعة الشعورية والفائدة الروحية.

أما أن يصب التزييف في صالح التربّح مقابل القليل من المجهود أو دونه، وإن لم يترتب عليه أي عواقب قانونية، فإن له على ضمير المُزيَّف، إن كان يقظاً، تبعات معنوية وآثار نفسية ومآلات صحيّة، كالتي جعلت من جيسيكا هندمان تُدمن أنواع المُخدرات، وتعاني شتى صنوف الاضطراب والاكتئاب، والتي أدت بها في الأخير إلى هجر الفرقة المزيّفة، رغم سخاء الأجر وبريق الأضواء.

دلالات
المساهمون