النخبة الإسرائيلية الجديدة

11 سبتمبر 2015
+ الخط -

لم يكن لعيدو نتنياهو، مؤلف رواية إيتمار كي، أن يتوقع تحقق ما تمناه "موشيه"، بطل روايته الساخرة الذي خرج  لـ "النضال" ضد المؤسسات الإعلامية والثقافية في إسرائيل التي تتحكم بها النخب اليسارية. كانت رواية نتنياهو التي صدرت عام 1998 تعبيراً حقيقياً عن الحملة التي كان يشنها في ذلك الوقت شقيقه بنيامين، الذي مضى حينها عامان على توليه رئاسة الحكومة أول مرة، وهي حملة استهدفت احتكار اليسار التأثير على المشهدين، الثقافي والإعلامي، في إسرائيل. أسفر التدافع السياسي الذي تحكم بوتيرته اليمين العلماني والديني، بسبب نجاحاته الانتخابية، عن تشكل نخب جديدة حلت محل تلك الموسومة بـ "اليسارية".

وأفضى التعاون بين حكومات اليمين ورأس المال اليهودي الداعم لخطها الأيدلوجي والسياسي عن إحداث تغيير حقيقي في تركيبة النخبة الإعلامية الإسرائيلية، بما يشكل رافداً لضمانة هيمنة اليمين على دائرة صنع القرار أمداً طويلاً. وقد تبين أن التيار الديني الصهيوني كان أكثر مركبات اليمين حماساً لاختراق مؤسسات المجتمع المختلفة، فقد حثت قيادات هذا التيار الكوادر الشابة على اختراق المؤسسات الإعلامية، ولا سيما التي تحظى الحكومة بتأثير مباشر، أو غير مباشر، عليها، وفي الوقت نفسه، اتجه رأس المال اليهودي المتعاطف مع اليمين إلى تدشين مؤسسات إعلامية كبيرة، ليس فقط لاستيعاب مزيد من الصحافيين والمحررين والمعلقين، من ذوي التوجهات اليمينية، بل أيضاً من أجل تكريس رواية اليمين وخطابه الأيدلوجي والسياسي والاجتماعي. وكانت مقولة "الممتازون للإعلام" التي أطلقها الإعلامي والوزير السابق، موشيه أورباخ، أبرز منظري التيار الديني الصهيوني، بمثابة الشعار التأسيسي لحملة التجنيد في سلك الإعلام، حيث أغرى "المضمون الرسالي" في هذا الشعار شباباً كثيرين في هذا التيار الديني، للانقضاض على وسائل الإعلام. ومن يتابع البرامج الإخبارية والحوارية التي تبثها قنوات التلفزة الإسرائيلية الرئيسة، سيلحظ بوضوح إعلاميين كثيرين من معتمري القبعات الدينية "المزركشة" التي تميز أتباع التيار الديني الصهيوني.


في المقابل، كان الملياردير اليهودي الأميركي، شيلدون أدلسون، لا يتردد في تمويل أي مشروع يضمن هيمنة اليمين على سوق الإعلام في إسرائيل، ويقلص من قدرة وسائل الإعلام الخاصة المتهمة بتبني الخط "اليساري" على التنافس. وكانت أول خطوة أقدم عليها أدلسون تدشين صحيفة "إسرائيل اليوم" التي توزع مجاناَ، وسرعان ما أصبحت الصحيفة الأوسع انتشاراً، وتمثل بشكل خاص خطاب التيار العام في اليمين. وقد كشف تحقيق بثته قناة التلفزة الإسرائيلية العاشرة، أخيراً، النقاب عن أن ديوان نتنياهو هو من يحدد اتجاهات التغطية في هذه الصحيفة. ولم يتوقف أدلسون عند هذا الحد، فاشترى صحيفة "ميكور ريشون" التي باتت تمثل خطاب اليمين الديني المتطرف. ومن المفارقة أن أدسلون نصّب حجاي سيلع، القيادي السابق في التنظيم الإرهابي اليهودي الذي نشط في ثمانينيات القرن الماضي، محرراً مسؤولاً لهذه الصحيفة. فسيلع هذا كان أصغر أعضاء التنظيم الذي نفذ عمليات إرهابية، أسفرت عن مقتل وجرح عدد كبير من طلاب جامعة الخليل، وإصابة رؤساء البلديات الفلسطينيين المنتخبين، ناهيك عن قطعه شوطاً كبيراً في التخطيط لتدمير المسجد الأقصى. وقد أضحى سيلع الذي يصر على عدم التعبير عن ندمه عن دوره في التنظيم من رموز الثقافة الإسرائيلية، تترك مقالاته صدىً واسعاً في إسرائيل. وإلى جانب اختراق المؤسسات الإعلامية، كان أهم إنجاز حققه التيار الديني الصهيوني اختراق المؤسسة العسكرية، فقد استغل هذا التيار تراجع الدافعية للتطوع في الوحدات القتالية لدى الأوساط العلمانية، فبلغ عدد الضباط في الوحدات المقاتلة من المتدينين الصهاينة ما يعادل ثلاثة أضعاف تمثيلهم في تعداد السكان. وبحسب معظم المعلقين العسكريين، في حال حافظ التيار الديني الصهيوني على وتيرة تسلله إلى المواقع القيادية في الجيش، لن يتأخر اليوم الذي تصبح فيه الأغلبية الساحقة من أعضاء هيئة أركان الجيش من أتباعه. وبسبب مشاركة الأحزاب الدينية في الحكومات، زاد تمثيل عناصرها في النخبة التي تهيمن على الجهاز البيروقراطي للكيان الصهيوني، ولاسيما في المواقع التأثير المهمة، وخصوصاً المؤسسات التعليمية والأكاديمية.

تبرز قصة تشكل النخبة الجديدة في إسرائيل، في الواقع، الخلاف الجوهري بين النظام السياسي الإسرائيلي الذي يضفي شرعية على المخرجات الطبيعية للتدافع السياسي، وضمنها إحداث تغيير في طابع وتركيب النخب، وما يحدث في العالم العربي، حيث تتم شيطنة أية محاولة لكسر احتكار النخب القديمة التي طفت على هامش نظم الاستبداد. فبخلاف ما يحدث في العالم العربي، لم تسلّم النخب اليسارية في إسرائيل فقط بالواقع الجديد، بل اتجه كثير منها إلى التوافق مع هذا الواقع، بحثاً عن دور، ومن أجل الحفاظ على مصادر الكسب. وفي المقابل، بمجرد أن وصل الإسلاميون إلى "الحكم" في بعض الدول العربية، رفعت النخب السائدة فزاعة "الأخونة" لنزع الشرعية عن أي قدر من التمثيل للإسلاميين في المؤسسات التي تؤثر على حركة المجتمع. وسرعان ما وظفت هذه النخب تلك الفزاعة في تسويغ الانقلاب على العملية الديموقراطية بأسرها، وإطاحة مخرجاتها.