الناس على دين ملوكهم

10 نوفمبر 2019
+ الخط -
قال أسامة بن معقل: كان السفاح راغباً في الخطب والرسائل، يصطنع أهلها ويُثيبهم عليها، فحفظت ألف رسالة وألف خطبة طلباً للحظوة عنده فنلتها. وكان المنصور بعده معنياً بالأسمار والأخبار وأيام العرب يدني أهلها ويجزيهم عليها، فلم يبقَ شيء من الأسمار والأخبار إلا حفظته طلباً للقربة منه فظفرت بها. وكان موسى مغرماً بالشعر يستخلص أهله. فما تركت بيتاً نادراً فاخراً، ولا شعراً ولا نسيباً سائراً إلا حفظته. وأعانني على ذلك طلب الهمة في علو الحال. ثم زهد هارون في هذه الأربعة فأنسيتها حتى كأني لم أحفظ منها شيئاً.

وهكذا دائماً الناس على دين ملوكهم؛ يفعلون ما يفعل حاكمهم. ينشطون كلما نشط، ويكسلون كلما كسل، ويقتلون كلما قتل، وتسوء أخلاقهم كلما ساء خلقه. ويتعلمون ويقرأون كلما أحب العلم وكرَّم أهله، ونشر في الناس الثقافة، وطبع الكتب وشجع الأدباء، وحارب الجهل بالعلم وأتاح للعلماء المجال.

وفي العهد الأموي والعباسي عُني خلفاؤهم بتدوين العلوم وترجمتها ونشرها. وأنشأ الخليفة أبو جعفر المنصور المدارس للطب والشريعة، واستقدم العلماء، فترجموا له كتباً في النجوم والطب. ونقل له ابن المقفع بعض كتب الأدب والمنطق، فاهتم الناس بالكتب وترجمتها، وكثر العلماء والشعراء والأدباء. ثم فترت النهضة أيام الهادي والمهدي بفتورهما. ثم عادت مرة أخرى في عهد الرشيد الذي نشرها في مملكته المتسعة، وضم إيوانه نوابغ العلماء، وألحق بكل جامع للصلاة جامعة للعلم. واصطحب معه مائة من العلماء كلما سافر، وكان يجلّ العلماء على تباين نحلهم. وقد ترجم في زمنه ما وجد من كتب الطب والكيمياء والنجوم والفلسفة والجبر والنبات والحيوان.


وفي عهد المأمون، وهو في العرب كبريكلس في اليونان وأغسطس في الرومان، حتى استعر أوار هذه النهضة العلمية. فاتخذ له بطانة من علماء اليونان والسريان والعجم. وتوافد إليه الحكماء والأدباء من كل حدب وصوب. وأمر سفراءه في أرمينية ومصر وسورية بأن يبعثوا إليه بما يجدون من كتب؛ فكانت الإبل تُرى داخلة بغداد حاملة الأسفار العبرانية واليونانية والفارسية، وجعل من شرائط صلحه مع ميخائيل الثالث ملك القسطنطينية أن يرسل إليه بمجموعة من الكتب النادرة. فلم يبق من كتب الصناعة والعلوم والفنون شيء إلا نقله إلى العربية. لذلك أقبل الناس على تلك العلوم درساً وفهماً، فبسّطوا علوم الشريعة، وضبطوا قواعد اللسان، ووضعوا علوم البيان، وشادوا المدارس والمراصد، حتى كشف العرب واخترعوا ما لا ينكره التاريخ.

ولم تزل كذلك النهضة في ازدياد حتى ضعف العرب، وسقطت رغبة الملوك في العلم، وانقطعت أسباب طلبه، وكسدت بضاعته، حتى ظن الناس أن تحصيله سعي باطل. ففتح له الغرب صدره، وفعل ملوكه بعلومه ما فعله العرب بالعلوم اليونانية، حتى آل أمرنا وأمرهم إلى ما نعرفه الآن!

وللنظام العسكري الذي انقلب على التجربة الديمقراطية الأولى، وحكم البلاد بالحديد والنار، وأشاع في الناس القتل وأسال الدماء أنهاراً، وترك الحبل على غاربه لإعلامه لتزوير إرادة الأمة وهدم ثوابتها؛ في الفرح بتلك الدماء، وإيجاد المبررات الهازلة لها لتمريرها، والشماتة في الموت، وقد كان أمره مقدساً عند المصريين. كان له عظيم التأثير السلبي على قيم المجتمع وأخلاقه، وخاصة الشباب.

إذاً، ماذا حدث للمصريين؟! لقد تجرأ بعضهم على بعض؛ بعدما تجرأ حاكمهم في بطشه بمعارضيه، وأسالوا دماءهم وقتلوا بعضهم البعض؛ بعدما قتل مخالفيه بلا رحمة وعلى أعين الناس وأسماعهم! ومنذ مذبحة الحرس الجمهوري في يوليو 2013 التي راح ضحيتها ما يقارب مائة نفس، وجرح الآلاف واعتُقل مثلهم، لم تسكت البندقية، ولم يتوقف سقوط الضحايا، ولم يجف جريان الدماء، وهكذا استمر القتل مروراً بالمنصة، وفضّ اعتصام رابعة العدوية والنهضة، ورمسيس الأولى والثانية، حتى التصفية الجسدية والقتل بالاشتباه... إلخ.

ومن وقتها تغيرت أخلاق الناس في بر مصر، واهتماماتهم، وانصرفوا إلى الصراع اليومي على لقمة العيش، حتى ضاقت أخلاقهم وساء أدبهم. وأصبحنا نرى كثرة المشاجرات في الشوارع وانتهاك حقوق الناس والسطو على أملاكهم، وترويع الآمنين، وازدادت عمليات الخطف والنهب والسرقة والقتل. وما تنقله كاميرات المراقبة في الشوارع والأحياء مرعب ومخيف، ودالّ على ما نقول.

ففي الدقهلية نسمع عن أب قتل طفليه ورمى بهما في المياه، ثم نسمع بعد ذلك بأنه انتقام من تجار للآثار كان يعمل معهم. إلى هذا الحد من القسوة والانتقام! حد قتل أطفال أبرياء! بأي ذنب يُقتلون؟!

وفي المنوفية يُدافع شاب صغير عن فتاة يتحرش بها بعض الشباب، فينهالون عليه ضرباً بالسكين، حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة.

وفي قطار (الإسكندرية – أسوان)، يُجبر كمسري القطار شابين على إلقاء نفسيهما من القطار وهو يسير مسرعاً، بعد مشاجرة معهما لعدم دفع تذكرة الأجرة، التي لم يملكا ثمنها. فأي قلب هذا الذي يسمح لنفسه بأن يفعل ذلك، وترخص عنده حياة الشباب إلى حد الموت من أجل تذكرة ثمنها أقل من مائة جنيه. وصدق من قال: من أمن العقوبة أساء الأدب.

يقول الكواكبي: "ولهذا كان الاستبداد يستولي على تلك العقول الضعيفة للعامة فضلاً عن الأجسام فيفسدها كما يريد، ويتغلب على تلك الأذهان الضئيلة فيشوش فيها الحقائق بل البديهيات كما يهوى، فيكون مثلهم في انقيادهم الأعمى للاستبداد ومقاومتهم للرشد والإرشاد، مثل تلك الهوام التي تترامى على النار، وكم هي تغالب من يريد حجزها عن الهلاك... والاستبداد قد ساق الناس إلى الاعتقاد بأن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين. إن أقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس، أنه يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق، ولبئس السيئتان، وأنه يعين الأشرار على إجراء غي في نفوسهم آمنين من كل تبعة ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح. وأسير الاستبداد يرث شرّ الخصال، ويتربى على أشرها، ولا بد أن يصحبه بعضها مدى العمر. أسير الاستبداد يعيش خاملاً خامداً ضائع القصد، حائراً كيف يميت ساعاته وأوقاته ويدرج أيامه وأعوامه. الاستبداد يضطر الناس إلى استباحة الكذب والتحيل والخداع والنفاق والتذلل، وإلى إماتة النفس والحس ونبذ الجد وترك العمل. إن الأمة إذا ضُربت عليها الذلة والمسكنة، تصير هذه الأمة سافلة الطباع، لا تسأل عن الحرية، ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف للاستقلال قيمة، ولا ترى لها في الحياة وظيفة غير التابعية للغالب عليها".

وهذه صرخة لانتشال هؤلاء الغرقى من بحر الاستبداد وسلبياته، وإنقاذهم قبل فوات أخلاقهم، وانهيار قوتهم، واستمراء باطلهم، ومنعهم عن بطش بعضهم ببعض، وتخويفهم من الدماء التي عظمها الله، والنفوس التي صانها الله. ثم تنبيه حسّ الأمة بآلام الاستبداد، والعمل على ترقي أخلاقها، وإيجاد دولة القانون والمحاسبة، التي تُقيم العدل، وتنصر المظلوم. فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
F9564B83-FF50-486A-9BC1-A882E1477F2C
وليد شوشة

كاتب مصري مهتم بالفكر والسياسة ورفع الوعي وإعادة تشكيل العقل العربي ليتناسب مع المعطيات الجديدة.يقول: أنا سائح يطلب الحقيقة وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس ومواطن ينشد لوطنه الكبيرالكرامة والحرية والاستقرار والحياة الطيبة.